مازال المؤرخون يجادلون حول الحرب الباردة التي نشبت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد أن تحالفا ضد النازية وفي الحرب العالمية الثانية. ويختلف المؤرخون حول بداية الحرب الباردة والمتسبب بها. ولكن من المؤكد أن التوتر والتنافس الجيوسياسي بين القطبين كاد أن يُودي بالعالم إلى أتون حرب نووية تقضي على الأخضر واليابس.

حينها اتبعت الولايات المتحدة ما عرف بسياسة الاحتواء. وكانت هذه الاستراتيجية من بنات المفكر والدبلوماسي جورج كينان والذي تحدث عن سلوك السوفييت ووجوب احتواء الدولة الشيوعية. وحينها انقسم العالم بين معسكرين، أحدهما يؤيد الولايات المتحدة، والآخر يؤيد الاتحاد السوفيتي.

وتشكل حلفان متواجهان من الناتو والذي ضم الولايات المتحدة والقوى الغربية في أوروبا إضافة إلى تركيا، والمعسكر الاشتراكي والذي عرف بحلف وارسو، وضم الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا. أصبح التنافس على أَوَجُهّ خاصة في دول العالم النامي.

واليوم يتكرر نفس الحال مع الصين ولكن بتفصيل مختلف. فالخلاف، أو قل التنافس الصيني ـ الأمريكي، تدفعه عوامل تتعلق ببنية النظام الدولي ـ أي توزيع القوة على المستوى الدولي ـ بدلاً من خلاف أيديولوجي بين منظومتين متناقضتين. والاختلاف الثاني أن التنافس ليس بين الغرب والشرق، ولكن تحالف أنجلوسكسوني ضد الصين، بينما الاتحاد الأوروبي محيّد، أو مغيب في هذا التنافس.

والخلاف الفرنسي مع الولايات المتحدة وأستراليا حول صفقة الغواصات دليل على هذا التوجه. صحيح أن الخسارة التجارية لفرنسا كبيرة، وصحيح أيضاً أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه استحقاقاً انتخابياً العام المقبل، إلا أن التداعيات الاستراتيجية هي التي أثارت حنق باريس. وكان حديثها صريحاً وقوياً، حيث وصفت الصفقة بين الولايات المتحدة وأستراليا بالطعن في الظهر، واتهمت المملكة المتحدة بالانتهازية. ولا يصف الحلفاء، عادة، بعضهم البعض بمثل هذه اللغة.

وستسعى باريس إلى قيادة أوروبا القارية في مواجهة الاصطفاف الجديد. ولن يكون غريباً إذا ما سعت أوروبا إلى التصالح مع روسيا لمنافسة الحلف الأنجلوسكسوني. بل إن آثار الحرب الباردة ستخيم على جميع البلدان. وستطلب واشنطن من حلفائها اختيار أحد المعسكرات المتنافسة، وقد لا يكون هناك هامش كبير للحياد الإيجابي.

ويبقى السؤال، هل الصراع بين الصين والولايات المتحدة حتمي؟ يرى كثير من خبراء العلاقات الدولية من المدرسة الواقعية أن الصراع أمر محتوم بين القوة الصاعدة والقوة المسيطرة.

وفي دراسة قامت بها جامعة هارفرد، وجدت أن التنافس بين القوة الصاعدة والقوة القائمة قاد إلى الحرب في ستة عشر حالة منذ القرن الخامس عشر ـ إلا أربع حالات، حيث كان التحول من سيطرة القوة السائدة إلى القوة الصاعدة تحولاً سلمياً.

ويقول غراهام أليسون في كتابه «مآلهما للحرب: هل تستطيع أمريكا والصين تفادي فخ ثوسيديدس؟»، إن الصين تجاوزت الولايات المتحدة في حوالي عشرين مؤشراً من الاقتصاد، إلى استهلاك الطاقة، إلى إنتاج الحديد والصلب، إلى استخدام الإنترنت والتجارة الإلكترونية. وفخ ثوسيديدس يشير للمؤرخ الإغريقي ثوسيديديس الذي كتب عن الحرب البيلوبونيسية والتي وقعت بين أثينا وأصبرتا في الأعوام (431 ق.م.-403 ق.م.). وقد كان تنامي قوة أثينا أقلق أصبرتا مما جعل الحرب أمراً محتوماً بينهما.

ويضيف أليسون أن المواجهة العسكرية بين القطبين مسألة وقت، ليس إلا. وعلى القوتين الأمريكية والصينية تفادي هذا الفخ وإلا فإن النتائج ستكون كارثية على الاثنين. وقد حذر الرئيس الصيني شي جين بينغ من أن على واشنطن وبكين تفادي الوقوع في فخ ثوسيديدس، وأن الطرفين ملتزمان أخلاقياً بالابتعاد عن شبح الحرب الذي يخيم بينهما، وذلك حين كان يستعد لمقابلة دونالد ترامب في 2017.

ويبقى السؤال، إذا كانت التحركات الأمريكية وإنشاء تحالف أستراليا ـ المملكة المتحدة - الولايات المتحدة، والذي يعرف اختصاراً بـ«أوكوس»، موجهاً أساساً إلى الصين، فلماذا معاداة الاتحاد الأوروبي وزرع الشكوك في خواطر الأوروبيين، ونزع الثقة تجاه الولايات المتحدة؟

الجواب قد يكون أن واشنطن ترى أن حدة التنافس يتطلب توحيد الصف، ولا تريد أن تتعامل مع تلكؤ الاتحاد الأوروبي. وإذا ما أرادت أوروبا أن تنضم لهذا التحالف عليها أن تنصاع إلى متطلبات المواجهة.