التاريخ في بعض مكوناته مجموعة من الأحداث التي لم تقع، وليست التي وقعت بالفعل، فعلى سبيل المثال، عدم استسلام النظام السياسي الذي قام في جنوب أفريقيا بعد انتهاء سياسة التمييز العنصري للرغبة في شن حرب عرقية انتقامية ضد البيض هو جزء من التاريخ، وإخفاق غالبية الفيروسات في إغلاق العالم بأكمله إلى الأبد، صار جزءاً من التاريخ أيضاً، ويسري الأمر كذلك على غياب أي ضربة نووية بعد تفجير قنبلتي «هيروشيما» و«ناجازاكي» عام 1945، وعدم انهيار الاتحاد الأوروبي حتى الآن على الرغم من كل ما أصابه من إخفاقات خلال الفترة الأخيرة.

فكرة «اللا أحداث» التاريخية مُهمة، وتزداد أهميتها في الوقت الراهن تحديداً، لأننا وببساطة شديدة نعيش حالياً في مثال نموذجي صارخ يؤكد صحتها وأهميتها، وهو جائحة «كوفيد 19»، التي يُمكننا القول وبوضوح تام أنها باتت «لا حدث» سياسي. فلعل من أهم الحقائق المُثيرة للدهشة عن الجائحة حتى الآن ضآلة التغيير الذي أحدثته في السياسات في أي مكان من العالم، إذا اعتبرنا أنها أحدثت تغييراً في هذا الشأن أصلاً. جميعنا يعلم الأعداد الهائلة من الوفيات التي نجمت عن «كوفيد19» وكذلك القيود على الحريات الشخصية في الحركة والتنقل في مختلف أنحاء العالم بسبب جهود احتواء الجائحة، لكن لا أحد يذكر أي تغيير سياسي استدعته الجائحة في أي مكان على الأرض.

ما زال المحافظون يتبوأون السلطة في بريطانيا بعد أن صعدوا إليها منذ 11 عاماً، بل ولا يزالون يتصدرون في نتائج استطلاعات الرأي، وأعيد انتخاب جاستن ترودو كرئيس للوزراء في كندا. وفي فرنسا، يبدو إيمانويل ماكرون الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية المُقبلة، وحتى في ألمانيا، فبرغم التقدم الذي كان متوقعاً لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني الشعبوي في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد الشهر الماضي، إلا أنه عانى تراجعاً كبيراً في نسبة الأصوات المؤيدة له.

ويعني كل ما سبق أن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ربما يكون الضحية السياسية الوحيدة للجائحة على مستوى العالم، وحتى هذا القول ليس من الممكن الجزم بصحته، وذلك ببساطة لأن أداء ترامب في استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة كان سيئاً قبل أن يعرف العالم أصلاً أن هناك شيئاً يُدعى «كوفيد19».

ربما يكون عدم تغيير الساسة والأشخاص في العالم الغربي برغم الجائحة أمراً طبيعياً وله ما يُبرره، في ضوء نظرية الإحجام عن التغيير خوفاً من أن يكون البديل أسوأ، وربما لن يشعر الناخبون بجدوى تغيير القيادات في أوقات الأزمات العالمية، ولكن الصدمة الكبرى تتمثل في عدم تغيير الأفكار!

عندما اندلعت أزمة الجائحة منذ نحو 18 شهراً، وبدأت الحكومات تدعم اقتصاداتها المتضررة من تداعيات الجائحة، كنت على المستوى الشخصي واحداً من الذين توقعوا تغييراً دائماً في التوجهات الاقتصادية لتلك الحكومات صوب سياسات أكثر عدالة في توزيع الموارد على السكان. مرت الأشهر الــ 18، وتضخمت فواتير دعم الاقتصادات، ولكن تبين لي أنني كنت واهماً، فالسياسات والأفكار كما هي.

ثمة أسباب عدة وراء حالة التعثر التي يعانيها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حالياً، إلا أن السبب الجوهري يتمثل في أن الرجل بالغ في تقدير حجم المُطالبة بالتغيير بين الأمريكيين. لقد اُنتُخب بايدن لسببين محددين، وهما إنهاء رئاسة ترامب ومنح الولايات المتحدة استراحة تلتقط فيها الأنفاس، إلا أنه طمح لأبعد من ذلك كثيراً.

يُلقي أعضاء الحزب الديمقراطي باللائمة على عضوين منهم بالكونغرس معروفين بميلهما نوعاً ما صوب اليمين في توجهاتهما السياسية، وهما جو مانشين وكريستين سينيما، في تأخير وتمييع مشروعات قوانين زيادة الإنفاق الحكومي التي تقدم بها بايدن إلى الكونغرس، ولكن إخفاق الحزب في الفوز بأغلبية كبيرة في انتخابات مجلس الشيوخ العام الماضي هو السبب الفعلي في التأخير والتمييع. ولعل هذا الإخفاق يُعد دليلاً مبكراً على عجز الجائحة عن إحداث تغيير جذري في أفكار واختيارات الناخب الأمريكي.

تُوصَف بعد الأوقات بأنها تاريخية، وربما تكون بالفعل كذلك، إلا أن سبب الوصف خاطئ، فهي تاريخية بسبب ما فيها من «لا أحداث»، وليس الأحداث، وإذا كان بايدن يرغب بإنقاذ رئاسته من المزيد من التعثر، يتعين عليه أن يُدرك عجائب ما لا يحدث.

* كاتب متخصص في شؤون السياسات الأمريكية لدى صحيفة «فاينينشال تايمز» البريطانية

ترجمة بتصرف: سيد صالح