كيف يظهر العقل في الواقع؟ سؤال على غاية كبيرة من الأهمية. إن كل ما يصدر عن البشر من قول ومعنى ورأي وسلوك وعواطف متنوعة إنما يصدر عن العقل، والتميز بين العقل والعاطفة إنما هو تمييز بين حالات ظهور العقل.

والعقل ليس أعدل الأشياء قسمة بين الناس كما ظن ديكارت. العقل حالات تتكون، الدماغ البشري يكون العقل الذي هو ابن الممارسة والتجربة الفردية والجماعية والتاريخية.

والعقل، والحال هذه، طبيعة تتثقف وتتعلم وتتكون عبر فاعلية مع العالم، عبر الممارسة التي لا تنتهي إلا بنهاية الحياة. والمتأمل في ظهور العقل يجد الاختلاف في تنوعه في التعين. وليس قولي هذا هو قول هيجل في فينومينولوجيا الروح، من حيث تعين العقل بمراحله الثلاث: العقل الذاتي والعقل الموضوعي والعقل المطلق، إنما أتحدث عن عقول الأفراد وتكونها في علاقتها بالعالم،

فهناك العقل الطليق، وهو العقل الذي لا يكف عن التكوّن، وتظل أبوابه ونوافذه مفتوحة لاستقبال الجديد وإنتاج السؤال، وتبقى عيونه منتبهة لكل ما يدهش، ويتحول من مصنوع إلى صانع. العقل الطليق هو العقل الصانع دائماً، والقادر على أن ينجز القطائع المعرفية.

وهناك العقل الذي تكوّن لمرة واحدة وفي عالم ضيق من الثقافة والمعارف، ويغلق ذاته خوفاً من أي ضوء أو ريح، ويسمل عينيه كي لا يرى الجديد، إنه العقل المتحجر.

العقل المتحجر هو الذي يرى عالمه المعيش أحسن العوالم الممكنة، ويقوم بحراسته حاملاً كل أدوات الحماية له من النفي والقتل.

والعقل المتحجر هو عدو الممكن المطلق، فيما العقل الطليق هو العقل الذي لا تكف دماء الممكن عن الجريان في أنحائه.

ولهذا فإن التناقض الذي يتحول إلى صراع بين العقل الطليق من جهة، والعقل المتحجر من جهة ثانية لن ينتهي أبداً، وإنما قد يخف إذا ما انتصر أحد العقلين على الآخر، وما دمار الحياة والحضارة إلا انتصار العقل المتحجر، فكل أشكال الدكتاتوريات سواء كانت دكتاتوريات أيديولوجية أو ذات عصبية دينية أو طائفية تنتمي إلى العقل المتحجر، وأخطر صراع هو الصراع بين العقول المتحجرة، إنه صراع يقود إلى تدمير الممكن والواقع معاً.

ولهذا فإن العقل الطليق الحر عقل الممكنات المتجاوزة يعلن بكل وضوح ودون تردد: إن الصراع بين الدكتاتورية وميليشياتها والميليشيات المناقضة لها ليس صراعنا، لأن صراعاً كهذا صراع بين العقول المتحجرة، صراع، ما أطلقناه عليه مرة مصطلح صراع المتشابهين، صراع بين أطراف الوسخ التاريخي، بل الصراع الحقيقي هو بين العقل الطليق وأبناء الحياة وصناعتها بجدة دائمة من جهة، والعقل المتحجر من جهة ثانية.

لا شك في أن العقل الطليق يرتكب الأخطاء، ومن حقه أن يرتكب الأخطاء ظناً منه بأنه مصيب، لكن ميزته تكمن في الاعتراف بالأخطاء إن كشفت عنها الممارسة، ويعمل على تجاوزها، وهو بهذا المعنى يتحرك في عقل الصواب والخطأ، والنسبي والموضوعي، فيما العقل المتحجر لدية الخطأ حقيقة مطلقة يدفع المعتقد به إلى الموت من أجله.

وبعد أن يكون منطق العقل الطليق قد أرهق ذاته في تأمله بالوجود الكلي ومحاولات الإجابة عن السؤال المثقل بما ولماذا، يحلق شعراً بأجنحة الحدس في غيبة لا تعرف مدتها، ويعود مزهواً بأعلى درجات الجمال. ويرسم بالريشة العصي عن البِلى، ويعزف على الأوتار ما تشدو به الحنجرة الذهبية، فما من إبداع في هذا الوجود إلا ويصدر عن العقل الطليق، فالعقل الطليق وحده المبدع في الفكر كما في السياسة، في الشعر كما في الفن، في العلم كما في البناء، إنه العقل الذي ينتج الحضارة بارتباط بسعادة الإنسان، فماهيته ماهية الحرية والتسامح وبذل الجهود في اكتشاف الممكن المتجاوز، والعمل على تحقيقه. فيما العقل المتحجر عقل اغتيال الواقع وجز أعناق الممكنات.

*كاتب وأكاديمي فلسطيني