ترجل المحارب كولن باول رجل السياسة والقائد العسكري الذي حطم عقبات لتولي مناصب عسكرية وأمنية وسياسية. وقد وافته المنية بسبب تعقيدات الإصابة بفيروس كورونا في شهر أكتوبر المنصرم. كان باول أول رجل من أصول إفريقية يتولى مناصب كانت حكراً على البيض. فقد تولى منصب مستشار الأمن القومي في ولاية الرئيس رونالد ريغان، ثم منصب رئيس الأركان المشتركة في عهد الرئيس جورج بوش الأب وعصر بيل كلينتون. وفي أيام جورج بوش الابن أسند إليه منصب وزارة الخارجية. وكان الشخص الأول من السود الأمريكيين يتولى هذه المناصب الثلاثة المهمة.
ولد باول في نيويورك عام 1937 لأبوين مهاجرين من جامايكا. وشارك في حرب فيتنام والتي صقلت عقليته العسكرية لهول ما شاهده من فظائع وفي النهاية خسارة أمريكية عسكرية ومعنوية في الداخل الأمريكي وحول العالم. وقد بلور باول بعد فيتنام عقيدة عسكرية اشتهر بها. وتقول، ما أسماه الصحفيين «عقيدة باول»: قبل الشروع في الدخول في حرب، على واشنطن أن تقرر فيما إذا كانت الحرب تصب في المصلحة الوطنية. ثانياً، هل لدى الولايات المتحدة هدف واضح من القتال. ثالثاً، هل قامت واشنطن بحساب الربح والخسارة بشكل شفاف وصريح. رابعاً، هل استنفدت الوسائل السلمية لحل المشكلة. خامساً، هل هناك مخرج من الحرب لتفادي حرب بلا نهاية. سادساً، هل درسنا نتائج الحرب بشكل مستفيض. سابعاً، هل تحظى الحرب بدعم الجمهور الأمريكي. ثامناً وأخيراً، هل لدينا دعم دولي واضح لخوض الحرب.
وقد شهدت ولايته أحداثاً جساماً؛ ولكن إلى أي مدى طبق عليها مبادئه في الحرب، مسألة تستحق الدراسة. وقد شهد عند ولايته كمستشار للأمن الوطني للرئيس ريغان (1987 - 1989) أول حوار بين واشنطن ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد أن اعترفت الأخيرة بحق إسرائيل بالوجود والقبول بكافة قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. ويقال إن باول كان من المؤيدين لهذا الحوار.
وحين انتخب بوش الأب رئيساً عيّن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة، وخدم في المنصب من 1989 - 1993. وخاض كرئيس الأركان المشتركة حرب بنما لإزاحة مانويل نورييغا القائد الفعلي لتك البلاد. وقد نجحت القوات الأمريكية في قلب نظام الحكم وشكلت حكومة جديدة. وبعد فترة ألقي القبض على الزعيم القوي للبلاد وأودع السجن بتهم عديدة.
ولكن التحدي الحقيقي الذي واجهه باول في مسيرته المهنية هو الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، وكان يتولى حينها أرفع منصب عسكري والمستشار الأول للشؤون العسكرية للرئيس بوش الأب. ويبدو أن باول كان متحمساً للمعركة لأنها تتطابق مع عقيدته الحربية. فالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة لدحر الاحتلال العراقي جلية للعيان. وهناك عدة قرارات لمجلس الأمن ضد الاحتلال يستند إليها التحالف المناوئ للعراق. ولدى الولايات المتحدة القوة العسكرية لحسم الحرب لصالحها. والهدف واضح وهو جلاء القوات العراقية من الكويت. والأهم بالنسبة لباول هناك استراتيجية خروج من الحرب. فمجرد إنهاء الاحتلال وإعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها ستنتهي الحرب في الخليج. وهذا ما حصل فعلاً.
وكسب بوش الأب الحرب، ولكنه خسر الانتخابات في 1992 لصالح الرئيس بيل كلينتون، الشاب المفوه والليبرالي المفعم بالحيوية. واستمر باول في منصبه كرئيس للأركان المشتركة إلى 1993. وحصلت مواجهة بينه وبين الرئيس الجديد بخصوص المثليين في الجيش الأمريكي، والذي أصر باول على عدم قبولهم في صفوف القوات المسلحة. وقد وعد كلينتون في حملته الانتخابية برفع الحظر عن هذه الفئة من الخدمة في الجيش. وتوصل الطرفان إلى مساومة مفادها عدم سؤال المجند عن الهوية الجنسية، وعدم إفصاح المجند عن هويته الجنسية.
وعند فوز جورج دبليو بوش الابن بالرئاسة في 2000، استقطب الرئيس الجديد كولن باول كأول وزير خارجية من أصول إفريقية. وقد هللت وسائل الإعلام لهذا التعيين بسبب كاريزما ودماثة الرجل واعتدال مواقفه. ومنصب وزير الخارجية هو من أرفع المناصب من بعد الرئيس ونائبه في الإدارة الأمريكية. وقد كان خياراً موفقاً بالنسبة لتوجه الرئيس الجديد، والذي ندد أثناء الحملة الانتخابية بالحروب الخارجية التي لا طائل منها، ومن مشاريع بناء الأمم والتي لا تعود على الولايات المتحدة إلا بالأسى، ولكن القاعدة أرادت غير ذلك!
ورغم مكانة المنصب إلا أنه كلف باول الكثير من رصيده السياسي وسمعته المهنية. فقد صادف تولي باول منصب الخارجية أحداث سبتمبر الإرهابية. وتحمل باول عبء إدارة دبلوماسية ثلاث حروب لم يكن راغباً فيها. فالحرب في أفغانستان لا تتوافق مع عقيدته لأن الأهداف غير واضحة واستراتيجية الخروج كذلك. والحرب العالمية ضد الإرهاب حرب ضد أهداف ضبابية ودون وضوح في الأهداف وفي نهاية الحرب، ولكن غزو العراق كان أسوأ هذه الحروب.
وكان الرئيس الغض نهباً في أيادي المحافظين الجدد والذين بيتوا النية منذ زمن لقلب نظام الحكم في العراق، ووجدوا في أحداث سبتمبر الإرهابية ضالتهم. وكان باول معارضاً لغزو العراق لجهة أنه لا يتوافق مع عقيدته الحربية. كما أن العراق ليس له علاقة بالأحداث الإرهابية، ولم يكن هناك أدلة دامغة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.
وتقول الشائعات في واشنطن - عاصمة الشائعات - إن باول استدعي إلى البيت الأبيض، وطلب منه الرئيس بوش الابن الامتثال لخط الإدارة في توجيه التهم للعراق ودعم توجه الإدارة لغزو العراق. وقد ذهب باول لمجلس الأمن وقدم أدلة واهية لم يكن هو مقتنعاً بها، وأعطى مصداقية لتوجه الإدارة في غزوها للعراق. وضحي بالعراق على مذبح حرب خطط لها أناس لم يشتركوا في حرب يوماً، بل ولم يشترك أبناؤهم فيها أيضاً. وضحي بمئات الآلاف من العراقيين والأمريكيين المهمشين لدواع مغلوطة، وقد تكون مختلقة.
كان بإمكان باول أن يستقيل ولكن ولاءه لآل بوش منعه من ذلك، وضحى الجندي، الذي طالما خدم بلاده، بالمصالح العليا الأمريكية في سبيل استرضاء القائد الأعلى؛ ولو أنه أقدم على الاستقالة للمعت خاتمة مسيرته المهنية بعد أن تكشّفت حماقة غزو العراق. ولعله أصبح أول رئيس من أصول إفريقية بدلاً من الرئيس باراك أوباما.
ورغم إخلاصه وتفانيه لبوش الابن إلا أنه لم يبق في الإدارة لفترة ثانية. وغادرها مطأطئ الرأس ومهيض الجناح. ولم يبق له إلا الخدمة العامة في مجال تشجيع النشء في بداية خطواتهم المهنية. وأصبح يناشد الأجيال الجديدة وخاصة من الأقليات في مجال العمل العام. وكان في آخر عمل قام به وأبدى شيئاً من الجرأة هو تزكية المرشح الديمقراطي باراك أوباما للرئاسة ضد مرشح الحزب الجمهوري. وحتى في هذه كان متأخراً، حيث كانت الاستطلاعات قد أشارت إلى فوز أوباما على غريمه جون مكين بشكل قاطع.
لا شك أن خدمة باول لوطنه محط تقدير واحترام الكثير، ولكن غزو العراق - كما قال هو بنفسه - وصمة في سجله الحافل.
كاتب وأكاديمي