كانت جلسة ساخنة، لكنها حميمية، في ردهة الفندق الذي يستضيف المشاركين في معرض الشارقة للكتاب، دار نقاش بين مجموعة من كبار المثقفين حول العالم العربي، كل يبارز بما في جعبته من رصيد ثقافي وإبداعي، عبر سنوات عمره المهني، منهم من فضل الصمت، دون الاشتباك في الحوار، واكتفى بالمتابعة، ومنهم من كان يريد أن يمتد الليل بالصباح، والنقاش مستمر، كعادة الغالبية من المثقفين، سارت الدردشة حائرة بين خشونة استعراض المعرفة، وبين نعومة الانحياز لفكرة الاختلاف.

قضايا عديدة مرت خلال هذه الجلسة، التي استغرقت قرابة ما يزيد على الثلاث ساعات، وهي تطوف حول قضايا من نوع: لمن تذهب جائزة نوبل؟ مروراً بالفائزين العرب بجائزة الرواية، وصولاً إلى بعض حكايات الأيام الأولى لكبار الشعراء، وانتهاء بقضية غياب القراءة، وتأثيره في الوعي العربي في إدراك ما يموج بالمنطقة من تحديات.

قضايا كثيرة، سياسية وثقافية وفنية، كانت محور النقاش، الذي انتهى بأن فرك المثقفون أعينهم واحداً تلو الآخر، وصعدوا إلى غرفهم ليبدأوا يوماً جديداً.

صعدت إلى غرفتي أبحث عن النوم، نظرت بعيني في سقف الغرفة، بينما عقلي يتساءل:

أليس مثل هؤلاء المثقفين المستنيرين في مختلف العواصم العربية، غير قادرين على تحرير العقول من المفاهيم المغلوطة، التي باتت تهدد أمن واستقرار هذه الأمة؟

ولماذا لا تصبح هذه الدردشة نموذجاً إيجابياً منظماً وممنهجاً، يتبناه كبار المثقفين والمفكرين، ويجوبون به العواصم العربية، ويقيمون معارض ومنتديات وندوات ومؤتمرات للإبداع والثقافة، بهدف فتح النقاش والحوار بين الأجيال المختلفة، وتشكيل الوعي؟

هنا في الشارقة، تلحظ إدراكاً عميقاً لأهمية الثقافة في بناء الأمم، معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأربعين، يقطع الطريق أمام تحديات الجائحة، التجول بين أجنحة الإبداع، تؤكد لك أن العالم في ضيافة الشارقة، الإقبال متزايد من نخب متعددة ذات روافد ثقافية مغايرة، إرادة قوية، وقرار في توقيت صعب، «كورونا» تحاصر العالم، بينما الشارقة تهزم الكوفيد بالإبداع، وتفرض سلطة الكلمة، وغواية القراءة والثقافة، والإيمان بضرورة وأهمية الوعي، كأقوى الأسلحة في مواجهة المعارك المستمرة، منذ ما يسمى بـ «الربيع العربي».

(هنا.. لك كتاب) شعار تقرأه في وجوه الجمهور من مختلف الأجيال والبلدان، حدث يجسد كل أشكال الفنون والإبداعات والمعارف الإنسانية، حدث صار ينتظره الصغار قبل الكبار، ومن لا يهتمون بالقراءة قبل القراء والأدباء والكتّاب، رسالة كرستها الشارقة طوال مسيرة طويلة، وقادت فيها أكبر حملة ثقافية في العالم، تحت شعار: (إذا مهتم بشيء، يعني مهتم بالكتب)، رسالة ظهرت في إمارات الدولة، وعلى مركبات الأجرة الشهيرة في لندن، وعلى اللافتة الأشهر في التايمز سكوير في نيويورك، وفي شارع الشانزليزيه بباريس، كما حملتها سائر العواصم العربية.

في الحقيقة، بعد يوم طويل من متابعاتي وجولاتي المتكررة في فاعليات المعرض، طاردتني بعض الأفكار، جلست في شرفة غرفتي رقم 501، ونظرت إلى كيفية ترجمة هذا الحدث الثقافي الكبير وغيره إلى عمل إيجابي، له نتائج ملموسة، تصب في مصلحة بناء هذه الأمة، فوجدت أن الخطوة الواجبة، والمستوجبة هي: ضرورة العمل على وضع سياق عروبي للدور الثقافي الفكري في بناء مجتمعاتنا، والعمل على صياغة، وعي - سليم وطنياً - للتصدي للحروب غير النمطية التي باتت تشكل خطراً وجودياً على العالم العربي.

* رئيس تحرير «الأهرام العربي»