للغة مكانة كبيرة عند العرب منذ القدم، فقد كانوا من أوائل الأمم التي أولتها الاهتمام الذي تستحقه وكأنهم على دراية بالأبعاد التي تحملها اللغات، وإنها ليست فقط وسيلة للتواصل، ولكنها تحمل معاني أكبر من ذلك بكثير، وعلى سبيل المثال عندما أصبحت الإمبراطورية الرومانية هي القوة العظمى في العالم واستولت على المخطوطات والكتب التي خلّفها اليونانيون، قام الرومان الراغبون بالعلم والمعرفة بتعلم اللغة اليونانية حتى يتسنى لهم الاستفادة من العلوم التي كتبت باللغة اليونانية، هكذا تعامل الرومان مع هذه المسألة، ولكن عندما وصلت كتب اليونانيين وغيرهم إلى العرب، قام العرب بترجمة الكتب اليونانية إلى اللغة العربية حتى لا تكتسب لغة أخرى مكانة كبيرة في المجتمع العربي، وحتى يتسنى للجميع الإطلاع على هذه العلوم والاستفادة منها>

وكان ذلك في فترة الدولة الأموية، حيث لعب الأمير خالد بن يزيد دوراً كبيراً في ترجمة كتب الطب والكيمياء التي كان بارعاً ومولعاً بدراستها، وبهذه الترجمة للكتب أصبح في مقدور العلماء العرب أن ينسجوا فكرة أعمق حول هذه العلوم لأنها كتبت بلغتهم، والإنسان قادر على الإبداع في تحليل الأمور بلغته الأم أكثر من أي لغة أخرى مهما كانت إجادته لتلك اللغة، وساعدت الترجمة أيضاً على أن تتبوأ اللغة العربية مكانتها بين اللغات العلمية لوجود الكثير من الكتب العلمية في مكتباتها، ولكن للأسف دمرت تلك المكتبات أثناء الغزو التتاري لبلاد العرب وتمت سرقة العديد منها.

ومن ناحية أخرى كان العرب يرون أن اللغة هي النافذة التي ينظرون من خلالها إلى أنواع البشر ويحددون من خلالها نوعية شخصياتهم، حتى أن الأعراب كانوا يراقبون أطفالهم مراقبة لغوية، فإذا قال أحد الأطفال من سيلعب معي؟ علموا أنه سيصبح قائداً، وإذا قال سألعب مع من؟ علموا أنه لن يصلح للقيادة عندما يكبر، وهذه الفلسفة العميقة لأبعاد اللغة وتأثيرها لم يدركها أحد كما أدرك أهميتها العرب، فقد كانوا يدفعون الأموال لإرسال أبنائهم إلى البادية حتى يكتسبوا فصاحة اللسان وحسن البيان من الأعراب الذين تميزوا بذلك، لأنهم يعلمون مدى تأثير اللغة على الفرد والمجتمع.

وفي زماننا هذا أدرك العلماء مدى أهمية اللغة حتى أنها أصبحت علماً قائماً بحد ذاته تتفرع منه أقسام عدة، فبعد الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الحلفاء على الألمان، قام بعض العلماء ومنهم العالم الكبير فريمان دايسون بالبحث في الأسباب التي جعلت من الجند الألمان أكثر شجاعة وقوة من الجنود الآخرين، فكان من ضمن الأسباب التي توصلوا إليها هي أن معنى كلمة جندي في اللغة الألمانية يحمل في طياته معاني أكثر عمقاً مما تعنيه كلمة جندي بالإنجليزية، وهذا الفارق اللغوي هو الذي صنع الفارق، وفي هذا دليل أن اللغة تلعب دوراً كبيراً في شحذ الهمم وصناعة الشخصيات ليس في ميادين القتال فقط، ولكن في جميع مجالات الحياة العلمية والاجتماعية وغيرها، فكيف بمن يملك لغة قوية كاللغة العربية؟