العلاقات بين «القوى العظمى» في العالم هي الأكثر حساسية في الشؤون الدولية كلها. والأسباب معروفة فقد كانت الدولتان الأعظم في الدنيا بعد الحرب العالمية هما الاتحاد السوفييتي (الآن روسيا) والولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان اللتان قادتا التحالف الدولي للانتصار على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. أكثر من ذلك أنه لم يمض وقت طويل حتى باتت القوتان تمتلكان السلاح النووي الذي سبقت إليه واشنطن قبل نهاية الحرب، واستخدمت بالفعل قنبلتين دمرتا هيروشيما وناغازاكي، وأجبرت اليابان على الاستسلام. لم يمض وقت طويل حتى حققت موسكو التكافؤ الاستراتيجي بالتوصل إلى السلاح النووي، وبعدها ذهب البلدان إلى سباق تسلح كبير تطورت فيه أسلحة الدمار الشامل (النووية والكيماوية والبيولوجية) وأدوات استخدامها (صواريخ وطائرات) استراتيجياً وتكتيكياً. هذه الأسلحة أدت إلى حالة من الردع المتبادل حقق استقراراً مخيفاً قائماً على الردع حتى جاءت «أزمة الصواريخ الكوبية» في مطلع الستينيات من القرن الماضي. خلال الأزمة اقتربت الدولتان من استخدام السلاح النووي، ومن أجل تفادي هذا الموقف المهدد بتدمير الكرة الأرضية، فإن الدولتين اتفقتا على إنشاء «الخط الساخن» الذي يمكن من خلاله التواصل ما بين القيادتين الأمريكية والروسية. ومع مطلع السبعينيات قامت الولايات المتحدة بإقامة علاقات مع الصين بدأت بما عرف بدبلوماسية «البنج بونج» وانتهت بلقاء القمة بين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماوتسي تونج. وتسبب هذا اللقاء في بدء ما بات معروفاً بدبلوماسية «القمة» التي تقوم على لقاءات منتظمة بين القيادتين الأمريكية والروسية، والأمريكية والصينية، واستمرت خلال العقود التالية. حدث ذلك خلال مرحلة «الحرب الباردة» وما بعدها حينما انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم.
مع انتخاب الرئيس الأمريكي بايدن في العام الماضي اتخذ موقفاً مناوئاً إزاء الدولتين روسيا والصين باعتبارهما قوى عظمى منافسة، كل فيما يخصها من قضايا. ولكن علاقات واشنطن مع موسكو ظلت بالغة الحساسية ليس فقط بسبب الترسانة النووية، وإنما لوجود عدد من القضايا بالغة الأهمية بين البلدين يقع في مقدمتها قضية أوكرانيا. وفي يوم الثلاثاء 8 ديسمبر الجاري جرى لقاء القمة عبر الفيديو كونفرانس الذي استخدمه الرئيس الأمريكي من قبل في لقاء بالقمة مع الرئيس الصيني شي جين بينج. أداة اللقاء ليست فقط جديدة في نوعيتها التكنولوجية، ولكنها من الناحية الدبلوماسية والسياسية تتيح للطرفين أداءً أفضل عما كان عليه الحال في دبلوماسية الخط الساخن. فالقمة توفر على القيادتين الكثير من الوقت والتكاليف الأمنية والبعد عن الساحة السياسية الداخلية تتيح المشاهدة الفعلية للطرف الآخر، خصوصاً إذا ما كان الغياب سوف يكون له كلفة سياسية تقع على عاتق رئيس الدولة. ومن ناحية أخرى فإنها تتيح رؤية ملامح الوجه والجسد، ومن ثم مراجعة رد الفعل الواقع من الطرف الآخر إزاء المقترحات المقدمة من أجل التفاوض. ومن ناحية ثالثة فإن التكنولوجيا تتيح للرئيسين الاستعانة بمعاونيهما الذين يجلسون حول مائدة قريبة.
الاجتماع كان ضرورياً بسبب التوتر الواقع على الحدود الروسية الأوكرانية. ومن المعلوم أن أوكرانيا كانت جزءاً مهماً من الاتحاد السوفييتي السابق، ومن وقت استقلالها وهي تريد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أولاً والاتحاد الأوروبي ثانياً، كما فعلت الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي. ولكن أوكرانيا لها حساسية خاصة، حيث إنها من ناحية كانت تحتوي على أقلية روسية في شرقها وتريد الاستقلال عن الدولة، وشكلت أغلبية في شبه جزيرة القرم، وهذه ضمتها روسيا بعد الاستفتاء من قبل. وخلال الأسابيع الأخيرة اشتدت الحركة الانفصالية من ناحية، وضغطت عليها حشود روسية مؤيدة من ناحية أخرى. حدث ذلك بينما الدول الأوروبية وحلف الأطلسي يؤكدان على ضرورة ترك الحرية لأوكرانيا في تحديد اختياراتها. في هذا الواقع المشتعل والمهدد بأزمة لا تقل خطورة عن أزمة الصواريخ الكوبية، انعقدت القمة والتي جرى فيها من ناحية تبادل التهديدات من الجانبين سواء أكانت اقتصادية بفرض عقوبات من الجانب الأمريكي إذا ما هددت حرية أوكرانيا أو استراتيجية برفض امتداد حلف الأطلسي إلى الحدود الروسية من الجانب الروسي. نتيجة الفيديو كونفرانس ربما تكون قد حددت «الصفقة» التي تخرج الجميع من الأزمة وهي أن تبقى أوكرانيا حرة، وربما تدخل في علاقة خاصة مع الاتحاد الأوروبي، وليس العضوية، بينما لا تدخل مطلقاً في التحالف الأطلسي.
* كاتب ومحلل سياسي مصري