من الأخبار غير السارة بالنسبة للأوساط الرسمية والشعبية الأمريكية، التي كشف عنها حديثاً مكتب الإحصاء الفيدرالي، أن «النمو السكاني في البلاد سجل أدنى مستوى له منذ تأسيس الدولة، خلال العام الأول من جائحة كوفيد 19». ومما رصدته البيانات بالخصوص أن الولايات المتحدة كانت قبل خمسين عاماً، ضمن الدول المتقدمة التي يزيد معدل الخصوبة فيها على 2.1 طفل لكل امرأة أثناء ذروة طاقتها الإنجابية.. بما يكفي لكل جيل كي يحل محل سابقه في قوة العمل والإنتاج وأداء بقية الوظائف، لكنه انخفض راهناً إلى 1.6 بحيث اقترب جداً من المتوسط الأوروبي المنخفض بدوره، الذي يراوح حول 1.53.

ربما كان لتداعيات الوباء بعض التأثيرات في إثارة واستشعار ضائقة الإحلال السكاني لدى المجتمعات الغربية. غير أن التمعن في الخط البياني للزيادة والنقصان السكانيين في هذه المجتمعات، ينفي منطقية إلقاء اللوم على هذا السبب وحده. فقبل حدوث هذه التداعيات في العام 2020، كان الأوروبيون يجأرون بالشكوى من خطر تدني معدلات خصوبة نسائهم، حتى قيل إنهن في عداء مع الإنجاب. نتأكد من هذه الحقيقة، حين نعلم من أرقام العام 2019 أن هذه المعدلات لم ترق إطلاقاً في عموم القارة العجوز إلى المتوسط العالمي البالغ 2.55، وكان أعلاها في فرنسا (1.86) وأدناها في مالطا (1.1).

عطفاً على هذا المشهد، فقد أمسينا بصدد واحد من التحديات العابرة لكافة مجتمعات عالم الغرب. وليس بلا مغزى في إطار هذه الحقيقة، تلاقي المعنيين هناك عند أسباب الأزمة وعند كيفية مواجهتها.. فعلى صعيد الأسباب، يشيرون إلى انخفاض معدلات المواليد وضمور حجم الأسر، وارتفاع سن الزواج هبوطاً إلى درك تأخير سن الإنجاب أو العزوف عن الزواج كلياً لدى بعض القطاعات، وارتفاع معدلات الشيخوخة. وعن التصدي للأزمة والتخفيف من غلوائها، يقترحون إطالة عطلة الأمومة والأبوة، وتوفير خدمة رعاية الأطفال المجانية، ومنح محفزات مالية للأسر كبيرة العدد، والتوسع في حقوق العمل، وتمديد سن التقاعد.

والحال كذلك، فإن معظم الحلول المطروحة تدور في فلك الإجراءات والسياسات الداخلية، التي تراوح بين المبادرات القانونية والحقوقية المشجعة لاتجاه الإنجاب ورفع معدلات الخصوبة، وبين تحريك البنية الثقافة المجتمعية نحو الاتجاه ذاته.. وهي خطوات إما أنها فشلت بالفعل في أداء أهدافها، وإما أنها لن تؤتي أكلها في أفضل الأحوال إلا في الأجل الطويل.

هنا تبرز عبرة التصور الأكثر جذرية والأسرع إنجازاً، والمفترض أنه ينتمي لحوزة العلاقات الدولية الخارجية مع مجتمعات الوفرة السكانية، وقوامه إعادة صياغة سياسات الهجرة والمهاجرين. والحق أن بعض دوائر الأمم المتحدة ذات الصلة، مثل قسم السكان في إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، تبدو سباقة في الدعوة لهذا الحل والتعريف بطبيعته ومزاياه العالمية «إن تسهيل هجرة الناس وتنقلهم بشكل آمن ومنتظم ومسؤول، سوف يسهم كثيراً في تحقيق أهداف التنمية المستدامة لكل من بلدان المنشأ والمقصد».

يوماً تلو الآخر تتعزز الدلائل على استحسان هذه الدعوة. الرئيس الأمريكي جو بايدن، لم ينتظر أن تتفاقم الأزمة السكانية إلى طور الكارثة، فتحدث في الصيف الماضي عن ضرورة تعديل قوانين الهجرة لصالح تجنيس «أولئك الحالمين، الذين دخلوا الولايات المتحدة مع والديهم وأطفالهم بوسائل غير قانونية، ويرونها وطنهم الوحيد». ولم يغفل سيد البيت الأبيض الإشادة بالمهاجرين كونهم «يقاتلون في الخطوط الأمامية ضد الوباء». بهذه المداخلة الاستثنائية، يكون بايدن قد كرر، بالصيغة ذاتها تقريباً، ما ورد على ألسنة بعض شركائه الغربيين كرئيسي الوزراء البريطاني والكندي والرئيس الفرنسي.

لكن ما يحسب لبايدن حصرياً، تقديره للبعد الاستراتيجي لسياسات الهجرة العتيدة، حين قال «فيما يتعلق بالمنافسة على التقدم في القرن الحادي والعشرين، نحن نحتاج إلى نظام للهجرة يعكس قيمنا وعلينا أن نصلح نظام الهجرة إلينا». عبارة كهذه توحي بأن الرجل يدرك ما للفتوة والحيوية السكانية من دور فارق ضمن مكونات القوة الشاملة للدولة.. الأمر الذي ينعكس على موقعها في غمرة التنازع، ولعله الصراع، لأجل الريادة العالمية والتربع على قمة النظام الدولي.