حدثان مهمان يأتيان من بلد واحد، حملتهما وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة، ينطويان على رسائل غاية في الأهمية، لكل من يعنيهم الأمر.

الأول هو تجريد الملكة البريطانية «إليزابيث الثانية» بصفتها القائد الأعلى للقوات المسلحة البريطانية، ابنها الثاني الأمير «أندرو» دوق يورك، والطيار السابق، الذي شارك في حرب الفوكلاند، من ألقابه ومن الأدوار العسكرية الملكية التي يقوم بها في رعاية عدد من الجمعيات. أما السبب، فيعزى إلى رفض المحاكم الأمريكية، مؤخراً، رد الدعوى التي أقامتها ضده مواطنة أمريكية من أصل أسترالي تتهمه فيها باغتصابها، وهي قاصر في السابعة عشرة من عمرها، قبل نحو عشرين عاماً.

بيان القصر الملكي أوضح أن الأمير أندرو لن يتولى أي منصب عام، وأنه سيدافع عن نفسه في هذه القضية كمواطن عادي، وهو ما فسرته الصحافة البريطانية بأن الملكة الأم لن تموّل أتعاب محاميه أو رسوم محاكمته.

الحدث الثاني في البلد نفسه، ويتعلق برئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي قامت عليه الدنيا ولم تقعد حتى الآن، لدعوته لحفل في مقر الحكومة في صيف عام 2020، في نفس الوقت الذي فرضت فيه حكومته على الشعب البريطاني إجراءات عزل مشددة، فتدفقت في وجهه حملات نقد عنيفة تتهمه بالكذب والخداع، وتشدد عليه الخناق في الصحف ووسائل الإعلام وفي صفوف المعارضة وداخل حزبه، تطالبه بالاستقالة من رئاسة الحزب ومن الحكومة.

الحدثان يشيران بوضوح إلى أننا في دولة يعلو فيها القانون على هامات كل الرؤوس: الأمراء والوزراء والرؤساء، وهي نفسها الدولة التي قاد فيها رئيس وزرائها السابق ونستون تشرشل بريطانيا للنصر على النازية في الحرب العالمية الثانية، بعد صمود أسطوري، وفي الانتخابات العامة التي تلت نصره مباشرة، فشل في الفوز بها، ولم يمنحه الشعب البريطاني أصواته، ربما لكي يؤكد المعنى الذي انطوت عليه وثيقة «المجناكارتا» أو ما يسمى بالميثاق الأعظم، الصادرة في بريطانيا في الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، لكي تخضع سلطة الملوك لحكم القانون، وتكبح جماح أي سلطة مطلقة، قد تغتر بما تكون قد أنجزته.

قبل نحو ستين عاماً، أصدر عالم الاجتماع المصري الدكتور سيد عويس دراسته السوسيولوجية الرائدة «رسائل إلى الإمام الشافعي»، وفي تلك الدراسة بحث الدكتور عويس في الأسباب والدوافع والنتائج المترتبة على ظاهرة إرسال المواطنين الرسائل إلى أضرحة الأئمة والوعاظ، في سياق مشروعه البحثي النادر، غير المتكرر، الذي امتد لسنوات، من أجل رصد الملامح التي تميز تكوين المجتمع المصري المعاصر.

وفي دراسته، خلص الدكتور عويس إلى أن المواطنين يلجأون في رسائلهم للإمام الشافعي للشكوى من ظلم وقع عليهم، أو أن يتوسط لهم للشفاء من مرض عضال، أو أن يحميهم من أذى خصوم لهم ينغصون عليهم الحياة، ويطلبون السند والحماية، إلى غير ذلك مما يحتاجونه في مسار حياتهم اليومية.

وتبين الدراسة بوضوح أن ظاهرة إرسال الرسائل إلى الموتى، والاستغاثة بهم تعد من الظواهر السلبية الخطيرة، وتتنافى مع روح العلم ومقتضيات العصر. وتكشف عن مصدر جديد لما أسمته الدراسة «الجرائم غير المنظورة»، التي يتكرر وقوعها، دون أن يلجأ المجني عليهم فيها إلى السلطات التنفيذية المنوط بها تنفيذ القانون وجلب الحقوق ومراقبة منفذيها، مثل أجهزة الشرطة والنيابة والقضاء والمجالس النيابية. أما السبب المباشر فهو انعدام الثقة من قبل المجني عليهم في تلك الأجهزة التنفيذية، المنوط بها تنفيذ القانون، والخوف من الفضائح في حال كانت الجرائم جنسية أو انتهاكاً لعرض أو حملاً خارج علاقة الزواج، أو الخشية من سطوة الجناة ونفوذهم.

وفي تلك الجرائم وغيرها مما رصدته الدراسة، فإن المشترك فيما بينها أنها تعكس غيبة لدولة الحق والقانون، تلك الدولة التي توازن بين الحقوق والواجبات، وتضمن المساواة التامة أمام سلطة القانون لكل مواطنيها لا فرق بين أمير وغفير، وبين مسؤول ومواطن، وهي إذ تقر بذلك تمنح مجتمعها فرصاً دائمة لعلاج الأخطاء والتعافي من الأمراض، والنهوض نحو تحقيق الخير العام.

والمؤكد أن ما جرى في قصر باكنغهام، مقر الملكة، وفي 10 دواننغ ستريت، مقر الحكومة البريطانية، وفي البرلمان، يعزز من الثقة في سلطة المؤسسة الملكية في بريطانيا التي بات النقاش فيها علنياً من أجل إلغائها، فلا هي تخشى النقاش، ولا هي تخاذلت عن ممارسة العقاب والمساءلة لذويها والمقربين منها، لتعلو راية القانون فوق رؤوس الجميع.