كما يبدو فإن التحول نحو العملات الرقمية والإلكترونية الذي يتزايد يوماً بعد آخر سيفرض أنماطاً عدة من محاولات التمرد عليه وعدم الانصياع له، وسيبعث أيضاً ممارسات نقدية كانت في توابيت النسيان.
ومن تلك الممارسات النقدية نظام المقايضة الذي قد يبدو في نظر الكثيرين منطقاً خلّاباً للتعبير به عن رفضهم للتحول نحو العملات الرقمية والإلكترونية، أو ربما عجزهم عن التعاطي مع هذا التحول واستيعاب تفاصيله وآلياته.
عندما تفرض الحكومات على الجميع إيداع جميع الأموال النقدية في البنوك لتحويلها للعملة الرقمية قبل نهاية العام 2030 مثلاً.. وبعد هذا التاريخ ستعتبر جميع العملات الورقية ملغاة وغير قابلة للتصرف.
هنا ستتشكل بلا شك تلبية لتداعيات التحول معارضة قوية من فئات مختلفة بالمجتمع لمقاطعة هذا القرار، وستنتشر نظريات كثيرة لتفسير أسباب وأهداف هذا التغيير، ولن تقوم فئات عدة بإيداع النقود كنوع من الاعتراض والضغط والممانعة. لكن في نهاية العام، وعند تفعيل العملة الرقمية كعملة وحيدة، سيدرك هؤلاء أن نقودهم باتت بلا قيمة، ولن يتم قبولها تجارياً، وأنهم مفلسون ولا يستطيعون شراء أي شيء مقابلها. عندها سيطالبون، بذعر، لتمديد فترة الإيداع لبضعة أسابيع، لتحويل نقودهم للعملة الرقمية، وهذا ما سيكون.
وكما يبدو فإن هذا التحول الحتمي سيمثل غاية قصوى لمعظم حكومات العالم، لرصد وتوثيق جميع الحركات المالية في البيع والشراء وحساب الرسوم والضرائب بدقة، دون أي تهرب ضريبي لمواطنيها وشركاتها. كما ستكون الثروة الحقيقية للجميع معلومة للأنظمة الحاكمة، وموثقة بشكل كامل بجميع تدفقاتها، فلا مكان لإيداع نقودك إلا في النظام الرقمي المسيطر عليه كلياً من قبل الحكومة، وسيختفي مفهوم الكاش. وهنا ستبدأ ملامح الحدود الجديدة التي لا تستطيع أن تتجاوزها، والتي عليك أن تستعد لها ربما من الآن.
وهنا سيكون لأنظمة الدول الحجة والأدوات للسيطرة على المواطنين والزوار والمقيمين والسياح وغيرهم، عبر التحكم بدخلهم الشهري. فتحرم هذا وتكافئ ذاك بناءً على انصياعهم للقوانين وتقبّلهم للنظام العالمي الجديد، وهو نظام التعاملات النقدية الرقمية.
وبلا شك فإن المراقبة الرقمية الصارمة للتداول النقدي داخل الدولة وعبر القارات، ستشكل تهديداً لاستمرار الدخل لبعض الدول والمنظمات والجماعات المدرجة ضمن القوائم السوداء في المجتمع الدولي.
«عصر الكاش» قد انتهى حتى على مستوى الفرد الراغب بدعم جمعية أو منظمة معينة، وسيطفو على السطح أقدم نظام تجاري عرفته البشرية، «المقايضة»!
ولا ننسى أيضاً فإن غاية التحول نحو العملات الرقمية والإلكترونية هو القضاء على مظاهر الاقتصاد الأسود واقتصادات الظل، لكن بالمقابل فإن هذا التحول أيضاً سيفرض تمرداً عليه لضمان البقاء في ظل دائرة الاقتصاد الأسود للمستفيدين من مظاهره، وذلك من خلال إحياء نظام المقايضة أول نظام مالي عرفته البشرية في فجر التاريخ، تماماً مثلما في قانون نيوتن الفيزيائي: «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه». وللحديث بقية.