عندما ولد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 7 أكتوبر عام 1952، كان جوزيف ستالين «الرجل الفولاذي» يحكم الاتحاد السوفييتي.

وعندما انهارت الإمبراطورية السوفييتية في 25 ديسمبر عام 1991، كان الرئيس الأوكراني فولديمير زيلنسكي، يبلغ من العمر 13 عاماً، وكان المقدم بوتين يتقدم بأوراق استقالته من جهاز الاستخبارات الروسية الخارجية «كي. جي. بي».

ساكن الكرملين يعرف قيمته، ويقرأ تاريخ القياصرة الروسي جيداً، ويتصرف وفق الوزن التاريخي لإمبراطوريته.

 بوتين ابن عقيدة، تدرك أن انهيار الإمبراطورية السوفييتية لا يعني بالضرورة الصمت على ما حدث، وأن اقتطاع أجزاء من الخريطة الحمراء لا يعني في قاموسه عدم عودتها مرة ثانية. الرئيس الروسي لديه قناعة بأن الثأر أمانة، وأن الانتصار لأجداده مهمته في القرن الحادي والعشرين.

مرارة الضربات التاريخية لروسيا الجديدة، أيقظت الماضي لدى بوتين، تعلم الدرس جيداً من اتفاقية فرساي الظالمة لألمانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، فاستعد لمواجهة التاريخ قبل أن يعيد نفسه في مناطق النفوذ الروسي.

أخلص بوتين لبلاده، وقال مناصروه: إن لم يكن لدينا «بوتين» لصنعناه، تعبيراً وتأكيداً على أهمية وجوده حاكماً وزعيماً، قاد روسيا لتصبح رقماً مهماً في معادلات توازن القوى العالمية.

منذ أن سكن الكرملين، وضع لبلاده أحلاماً ثم حولها إلى واقع، استطاع بوتين أن يستعيد أمجاد السلاح الروسي من جديد، بل وينافس به السلاح الغربي، أعاد الاهتمام بالجاليات والناطقين بالروسية في جميع دول العالم، لا سيما في الفضاء الروسي، نجح بامتياز في استعادة عافية الاقتصاد الروسي.

رسائله إلى العالم تنطلق من مرتكزات جيوسياسية، الحفاظ على الأمن القومي الروسي خط أحمر، الاقتراب من أوكرانيا يساوي -في رأيه- تجاهلاً مباشراً للقيصر الأحمر. حسابات الأمس تجاه روسيا وشرق أوروبا لا تتطابق مع الواقع. زئير ابن الـ «كي. چي. بي» أربك خريطة العالم، استراتيجية الصبر والغموض والصمت، لعبة يجيدها تماماً القيصر، في مناورة الخصوم والمنافسين، مباحثات واتصالات وزيارات ووسطاء، لكن المحصلة تبقى في عقل وقلب بوتين وحده، صاحب ملامح «رخامية» من الصعب أن تقرأ منها أي توجهات، يجبرك على أن تحسب ألف حساب دون أن يهتز له جفن.

 الرئيس الروسي يعرف جيداً حجم وطبيعة التضحية التي يمكن أن يقدمها «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الدفاع عن أوكرانيا، فعندما يجلس بوتين على مقعده داخل الكرملين، ويقلب في أوراق علاقة موسكو بالغرب، يتوقف باندهاش وحذر أمام الوعود الكثيرة، التي لم يلتزم بها الغرب تجاه روسيا، يكفي أن يقرأ فقط وثائق اتفاقيتي «إسطنبول» عام 1997، والأستانة عام 2010، ليكتشف أنه لا بد أن يستكمل مشواره، وألا يأمن كثيراً لأي وعود جديدة.

التوسعات الغربية في دائرة النفوذ الروسية، بمثابة إنهاء مهمة الرئيس بوتين، وأيضاً انهيار جديد لروسيا.

موسكو تدير موقفها في هذه الأزمة، وفق محددات واضحة، تعلن أن واشنطن وشركاءها الأوروبيين لن يخوضوا مغامرات تقلب العالم من أجل «كييف»، فالأولويات لديهم هي المحرك الرئيسي للتصعيد، الحفاظ على الغاز والنفط مقدم على الدخول في حرب حقيقية مباشرة، برلين لن تسلم نفسها للصقيع القاتل، مقابل التورط في المستنقع الأوكراني، باريس تستعد للانتخابات الرئاسية الجديدة، وليست لديها رفاهية الدخول في حرب على الأراضي الأوروبية، لا سيما أن باريس تترأس الاتحاد الأوروبي حتى يونيو المقبل، بينما واشنطن لا تزال تسدد فواتير عديدة، في مقدمتها تداعيات خسائر عقدين قضتهما في أفغانستان، لتجد أن الفاتورة الاقتصادية الأكبر التي سبقتها جائحة كورونا، فضلاً عن أن البيت الأبيض على بعد أمتار من إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر المقبل، حتى «بكين» البعيدة جغرافياً عن الصراع، ليس من مصلحتها اشتعال حرب من هذا النوع، قطعاً ستكون لها آثارها السلبية على الاقتصاد العالمي والنمو الصيني.

كل هذه المحددات منحت بوتين الثقة في التحرك والتفاوض وزيادة حجم المناورة، الظروف جميعها جعلته الرقم المهم في معادلة التفاوض مع الغرب.

وريث الإمبراطورية السوفييتية حقق مكاسب قبل الدخول في الحرب، هذه المكاسب بمثابة أسلحة جديدة، تزيد قوة في كسب مزيد من المساحات نحو تحقيق الأهداف، التي رسمها لنفسه، منذ اليوم الأول لدخوله الكرملين. بوتين يحرز معركته بالنقاط، شراكة موسكو مع بكين أزعجت واشنطن، الأهداف بعيدة. «كييف» خطوة في الطريق، القلق من التنين الصيني والدب الروسي. هنا الحكاية، قطع الطريق أمام التمدد الروسي، رسالة يقرأها جيداً الرئيس شي جين بينج، إذ ما راوده حلم استعادة تايوان بالقوة.

خطر التورط في حرب لن يرحم أياً من أطراف الأزمة، اقتصاد العالم لن يتحمل حرباً عالمية ثالثة. هذه المرة ستكون مغايرة، مفردات القوة الآن لا تشبه مفردات القوة إبان الحرب العالمية الثانية. وجه جديد ينتظر العالم حال اندلاع الحرب، ثمة سؤال يطرح نفسه في ظل الشعور العام بأن روسيا على حافة الحرب، هل من مصلحة موسكو التورط في حرب جديدة؟

 المؤشرات في الداخل الروسي تقول: إنه ليس من مصلحة روسيا الدخول في حرب لعدة أسباب، في مقدمتها: أن الاقتصاد الروسي يعاني أزمات كبرى، ازدادت مع جائحة كورونا، وأن روسيا هي الأكثر بين الدول الأوروبية، التي تعاني من تلقي اللقاحات، فضلاً عن أن اندلاع الحرب يعني خسارة خط الغاز «نوردستريم2»، الذي ينقل الغاز إلى ألمانيا، الأمر الذي يعصف بالاستقرار الاقتصادي الروسي، ناهيك عن خسارة بعض العلاقات مع دول مثل السويد وفنلندا اللتين أكدتا أنهما ستنضمان إلى «الأطلسي» فور اندلاع الحرب.

أخيراً، أرى أن الحسابات لا تزال معقدة، وأن الصراع الروسي- الأوكراني يمكن دخوله مرحلة التبريد، لا سيما أن التقديرات تقول: إن الحرب ستكون كارثية على جميع أطراف الأزمة.

 

رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي*