مع بدء ظهور أول لقاحات «كوفيد 19» العام الماضي، توقعت شخصياً عودة الاقتصاد العالمي بقوة، وبدء عصر ذهبي جديد للعولمة. لم يحدث ذلك بعد، ويبدو أن المزيد من الانقسامات مرجح.

فثمة اندلاع حرب محتملة بين روسيا وأوكرانيا. وتكثيف الصراعات بين روسيا والغرب. وستؤدي الخلافات الجيوسياسية إلى مفاقمة النقص الناجم عن الجائحة. وقد ولّدت مشكلات الإمداد حالة من العصبية والخوف، وعندما تمت ترجمة هذا القلق إلى سياسة، فقد شجع هذا على الاعتقاد بأن البلدان بحاجة إلى الاكتفاء الذاتي. وقد ضغط المحللون وصناع السياسات من أجل الاكتفاء الذاتي أو تخيلوا، على الأقل، تقسيم العالم إلى كتل متنافسة، حيث رأوا في ترابط العولمة ضعفاً يُخضع البلدان إلى قوى خارجة عن السيطرة الوطنية.

لكن عالم الاكتفاء الذاتي له حدود واضحة أيضاً، ففكرة أن البلدان لا يمكن أن تصبح مرنة إلا من خلال تحقيق اكتفاء ذاتي جذري هي فكرة تتعارض مع الحاجة إلى منتجات معقدة ومتخصصة، فلن تنتج المجتمعات الصغيرة ملابسها، ناهيك عن أجهزة الكمبيوتر أو السيارات. وتشكل أزمة سلسلة التوريد المستمرة تهديداً للمجتمعات، لكن حل هذه المشكلة لا يكمن في أن تتدخل الحكومات بقوة أكبر من أجل تأمين الموارد أو تقويض العولمة، بل ببناء شبكات إمداد مرنة ومتنوعة لا تعتمد على مصدر واحد وتسعى إلى المزيد من الروابط، وليس أقل، في أنحاء العالم.

وكان واضحاً في البداية لواضعي السياسات أن السماح لقانون العرض والطلب بإملاء أسعار معدات الحماية من «كوفيد 19» أمر غير عادل وغير فعال بشكل مروع، فأولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الحماية لن يكونوا قادرين على تحمل تكلفتها، ثم سرعان ما انتشر النقص في المنتجات بشكل أكثر اتساعاً. ومع تزايد الطلب على أجهزة الاتصال ومعدات معالجة البيانات تحولت الرقائق الإلكترونية إلى مواد نادرة جداً، وأدى ذلك إلى تقييد قدرة الموردين على تسليم البضائع التي تتراوح من السيارات إلى الغسالات، وغيرها، ثم في غضون بضعة أشهر، غدت أسباب الندرة معقدة ومتشابكة للغاية، لدرجة أنه كان من الصعب تخيل مخرج للأزمة. وقد لعب نقص العمالة، وخاصة سائقي الشاحنات، دوراً في ذلك، وغياب حاويات الشحن التي علقت أو توقفت في طوابير خارج مرافق الموانئ المكتظة.

ويتفاعل المستهلكون مع هذا النقص بطريقة يمكن التنبؤ بها، يشرعون في الاكتناز قدر المستطاع، كما في شراء بدائل أقل جودة، وهم قد لا يستهلكون جميع البدائل التي اشتروها وخزنوها بعيداً، ما يفاقم الهدر، وعليه يعد الاكتناز نهجاً يؤثر سلباً على الجار، فيما قد لا يحسن معيشة المكتنزين.

وفي ذلك تعكس حسابات المنتجين بالضبط مخاوف المستهلكين، فإذا لم يعد المصنعون واثقين من أن عملياتهم قادرة على الاستمرار في العمل بسلاسة، فإنهم يحتاجون إلى تكوين مخزونات كبيرة، ما يرفع تكلفة الإنتاج التي تنعكس حتماً في ارتفاع الأسعار.

وتؤدي قيود العرض إلى مفاقمة مشكلات الإنتاج، وإجهاد الشبكات المترابطة وتفككها. وتتصرف البلدان بالطريقة نفسها التي يتصرف بها الأفراد، فتلجأ إلى التخزين دون داعٍ. وأحد الأمثلة على ذلك تخزين لقاحات كوفيد 19 من قبل الدول الغنية، حيث تم إهدار كميات كبيرة من اللقاح بعد انتهاء صلاحيته. كذلك فإن تصور أزمة ملحة يجعل التحركات المسرحية مرغوبة سياسياً. على سبيل المثال، تحب البلدان التنافس في التباهي بكمية اللقاح التي لديها كنسخة مختصرة لشرح أنها تتعامل مع الأزمة بشكل جيد للغاية.

وتتسبب الندرة في منافسات وحروب عطاءات بين دول مختلفة على المنتجات النادرة. كما أنها تركز الانتباه على الجغرافيا السياسية. ومع تزايد مشكلات الإمدادات، تبدو سيطرة روسيا على إمدادات الغاز لأوروبا خطراً بشكل متزايد، ويرى منافسو الصين أن وصولها إلى المواد الأرضية النادرة المطلوبة لتنقية البطاريات وتخزين الطاقة تهديد تنافسي، فالندرة تجعل المنافسة الشديدة والعمل العدواني وفي النهاية الحرب أكثر احتمالاً.

وقد أدت الندرة الناجمة عن «كوفيد 19» ونقص «الرقائق» إلى اشتداد المنافسة العالمية. كما أن القوة التي يمكن أن يمارسها موردو اللقاحات هي تذكير بكيفية استخدام التكنولوجيا من قبل الدول القوية لتحقيق غاياتها الخاصة. وعندما تصبح التقنيات الأكثر إنتاجية موضوعاً لسباق تسلح جديد، فإن العديد يتعرض لخطر فقدان الوصول إلى المنتجات أو القدرة فقط على الوصول إلى بدائل أقل جودة وأكثر تكلفة.

وبالتركيز على مشكلات سلسلة التوريد، تبرز أوجه الشبه التاريخية الأقرب في تجربة الدول التي شهدت حروباً كبرى، فهناك علاقة متبادلة بين الحروب والهواجس بشأن حماية سلاسل التوريد، ففي الحرب العالمية الأولى، ذاك الصراع الذي وضع القرن الـ20 على مسار المزيد من العنف والتفكك، مدفوعاً باستراتيجية البلدان المعيبة في كثير من الأحيان لإغلاق طرق التجارة وقطع إمدادات الطاقة. وفي الحرب العالمية الأولى تحول السخط إلى موجه ثورية انطلقت من روسيا وشرق ووسط أوروبا رداً على نقص الحبوب والمساكن، ولم تستطع القيصرية إصلاح الأمر.

ويرتبط الجدل حول النقص بالقلق المتزايد بشأن ارتفاع الأسعار والتضخم، فزيادة الأسعار هي استجابة طبيعية للندرة، والاستجابة الأكثر شيوعاً من الحكومات المتوترة هي محاولة التحكم بالأسعار أو دعم السلع النادرة، ما يؤدي إلى تعميق مشكلة سلسلة التوريد بدلاً من تحسينها.

سوف يزداد النقص سوءاً، حيث سيشتري الناس الأشياء التي يعتقدون أنها نادرة، والتي يرونها أقل من قيمتها الحقيقية، وسيقيد المنتجون إمداداتهم، فخلال الحرب العالمية الأولى، خفضت العديد من البلدان أسعار الحبوب لحماية المستهلكين، فاستجاب المزارعون بخفض كميات الحبوب المعروضة للبيع، وأطعموا الحبوب الإضافية للماشية لبيعها بعد ذلك في سوق غير منظم.

وقد تنتهي مشكلات سلاسل التوريد في وقت لاحق هذا العام، إذا تمكنت الحكومات من إعادة إنشاء الروابط، وهي بحاجة للحد من الحواجز التي تعترض التنقل، والتي تراكمت خلال العامين الماضيين، ولكن إذا استمرت الحكومات القلقة في السعي إلى الاكتفاء الذاتي، فقد تمتد الأزمة إلى عام 2023 ولفترة أطول. وبدافع من الندرة، قد تقود عودة الفكر الحمائي الحكومات إلى حلول أكثر تكلفة وغير شعبية تؤدي إلى ارتفاع التكاليف، ولكن أيضاً الاستياء والتطرف والعنف وحتى الحرب.

إن عودة اقتصاد العالم بقوة لن تتحقق إلا عندما يرى صناع القرار أنه حتى الدول الكبرى لا يمكنها السيطرة على التصاعد المتزايد للندرة من دون تكثيف الروابط مع بقية العالم.