لسنا في حاجة إلى التعمق في التاريخ حتى نوقن أن 2021 سيصبح واحداً من أكثر الأعوام أهمية في التاريخ الحديث لدولة الإمارات، فقد احتفلنا فيه باليوبيل الذهبي للدولة، ورحبنا بالعالم في إكسبو 2020 دبي، وأطلقت القيادة الرشيدة فصلاً جديداً من مسيرة النجاح المتواصلة عبر «مشاريع الخمسين».

وهي تشمل حزماً متكاملة من المبادرات الاقتصادية والاجتماعية، وترسم مسار الإنجازات خلال الخمسين عاماً المقبلة، وصولاً إلى مئوية الإمارات عام 2071، عبر تغييرات هيكلية وجذرية في المنظومة الاقتصادية، تشمل تمكين القطاعات الاقتصادية المحلية والكوادر المواطنة، وتطوير مجموعة قوانين ومبادرات وطنية خاصة بتمكين الكفاءات الوطنية والمواهب ورواد الأعمال الإماراتيين، وإطلاق مشاريع لاستقطاب المواهب والمستثمرين للدولة، وبناء شراكات اقتصادية عالمية، بهدف ترسيخ مكانة الدولة مركزاً عالمياً للأعمال، ووجهةً مفضلة للمواهب والمبتكرين.

ولتحقيق هذا الهدف، تم اتخاذ عدد من الخطوات منها إصدار قانون الشركات الذي يسمح بملكية الأجانب بنسبة 100 %، واعتماد عطلة نهاية أسبوع جديدة تتماشي مع الأسواق والاقتصادات الرئيسية حول العالم، وتعديل قوانين العمل والإقامة لتكون أكثر مرونة لجذب أفضل العقول والكفاءات إلى سوق العمل، والإعلان عن التزام الدولة بالوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول 2050.

وذلك بما يُحقق أهداف ومبادرات المرحلة الثالثة من خطة التعافي والنهوض الاقتصادي التي أطلقها مجلس الوزراء في أغسطس 2020، ونتخذ منها خارطة طريق للنمو وتهيئة الاقتصاد الوطني للانتقال إلى نموذج أكثر مرونة واستدامة بمحركات نمو جديدة تخدم احتياجات اقتصاد المستقبل.

ومع الأهمية الاستراتيجية بعيدة المدى لمشاريع الخمسين، فإن إعادة تقييم العلاقات التجارية للدولة من شأنه تحقيق نتائج سريعة، كما كان من الضروري إعادة هندسة اقتصادنا الوطني، ليس فقط لمواجهة تحديات المستقبل، ولكن أيضاً لتخطي عقبات الحاضر، وخصوصاً ما يتعلق بتداعيات التفشي العالمي لوباء كورونا.

ولهذا جاءت الاستجابة الحكومية للتحديات الراهنة للاقتصاد العالمي والتأثيرات السلبية لجائحة «كوفيد19» على سلاسل التوريد حول العالم سريعة ومدروسة، إذ أصبح تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الشركاء الاستراتيجيين للدولة في جميع أنحاء العالم أولوية رئيسية لمشاريع الخمسين، عبر إطلاق برنامج الاتفاقيات الاقتصادية العالمية، لتلبية الحاجة المتزايدة إلى تحفيز تدفق السلع والخدمات داخل وخارج الإمارات، وترسيخ مكانتها بوابةً رئيسية لتدفق التجارة الدولية عبر أرجاء العالم، وتحفيز الاستثمار وتوفير فرص جديدة للمشاريع المشتركة، والمساهمة في استقطاب جميع أشكال رؤوس الأموال، سواء كانت البشرية أو التكنولوجية أو المالية.

وفي الصيف الماضي، اعتمدت حكومة الإمارات قائمة أولية تضم 8 دول، لإطلاق محادثات معها بهدف التوصل إلى اتفاقيات للشراكة الاقتصادية الشاملة، وجاء اختيار هذه الدول بعناية ووفقاً لمعايير محددة، أبرزها أنها تتمتع بأهمية استراتيجية إقليمياً وعالمياً، كما يعيش فيها مجتمعةً 26 % من سكان العالم، وتسهم بنحو 10 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. والهدف الرئيس هو تأمين زيادة سنوية قيمتها 40 مليار درهم بتجارة الدولة مع هذه الدول.

وترجمةً للمكانة العالمية المرموقة للدولة في مختلف المجالات، كانت استجابة هذه الدول إيجابية للغاية، وجرى إطلاق المحادثات مع إندونيسيا وإسرائيل والهند، وبالتزامن مع ذلك بدأنا استكشاف مجموعة من الفرص مع دول أخرى ذات نظرة مستقبلية مماثلة لرؤية الدولة، خاصة الأسواق التي تسعى إلى علاقات أوسع وأكثر تكاملاً مع الإمارات لتحقيق منافع متبادلة.

ومع انتهاء 2021، وتحول الخطط التي أُطلقت خلاله إلى واقع ملموس في العام الجديد، فإن أولى اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة جرى إنجازها وتوقيعها.

واللافت أنها مع جمهورية الهند الصديقة بكل ما تمثله من علاقات تاريخية وتجارية وثقافية واقتصادية ضاربة في القدم مع دولة الإمارات، وكونها أحد أقدم حلفاء وشركاء الدولة ومن بين أكثرهم ثقة، لتصبح الهند الدولة التي نكتب معها الفصل الأول في هذه الحقبة الجديدة من النمو والازدهار المتبادل لاقتصاد وتجارة الدولتين الصديقتين، وبما يعود بالفائدة أيضاً على حركة التجارة العالمية ككل. كما أننا نفتح صفحة جديدة من التعاون التجاري تخدم جهود التعافي للاقتصادين من تداعيات الجائحة العالمية وتؤسس لمرحلة أكثر نمواً وازدهاراً لما بعد كوفيد19.

إن المكاسب المباشرة لاتفاقية الشراكة الاقتصادية بين الإمارات والهند واضحة للبلدين، إذ إنها ستزيد التجارة البينية غير النفطية إلى 100 مليار دولار في غضون السنوات الخمس المقبلة، بفضل الإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية على أكثر من 80 % من البضائع. وسيتمتع المصدّرون الإماراتيون بوصول أكبر إلى سوق ضخم يضم ما يقارب 1.4 مليار مستهلك، وستكون الشركات الإماراتية أكثر قدرة على اغتنام الفرص الاستثمارية المتاحة في مجالات متعددة مثل الضيافة والتشييد والخدمات.

ووفقاً لتقديراتنا، فإنه بحلول 2030 ستضيف الاتفاقية نحو 1.7 % إلى الناتج المحلي الإجمالي لدولة، بما قيمته 8.9 مليارات دولار. وستزيد الصادرات الإماراتية 1.5 %، وينمو حجم الواردات 3.8 %، أي بقيمة 14.3 مليار دولار إضافية. كما ستتيح الاتفاقية خلق أكثر من 140 ألف وظيفة بقطاعات تتطلب مهارات عالية وكفاءات متخصصة ضمن سوق العمل الإماراتي، ما يسهم في رفع القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني وتسريع الابتكار بالقطاع الصناعي المتزايد الأهمية.

وبالنسبة للأصدقاء في الهند، فإن الاتفاقية تتيح لمجتمع الأعمال وصولاً أفضل للسوق الإماراتي بما يتضمنه من إمكانيات لتصنيع السلع والتقنيات الرقمية والآلات الصناعية والأجهزة المنزلية والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة، كما أنه بوابة رئيسية خالية من التعقيدات تسهل النفاذ إلى الاقتصادات سريعة النمو في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. ومعاً، يمكن للدولتين الاستمرار في استكشاف الفرص بشكل مشترك في قطاعات الصناعة والبنية التحتية والطاقة والزراعة.

وتتمتع هذه الاتفاقية التاريخية بالمرونة الكافية لضمان استمرارية تطويرها، بما يخدم مصالح الطرفين، حيث إن عدداً من فصول الاتفاقية يتضمن آفاقاً للتطوير في المستقبل، ومن أبرزها التجارة الإلكترونية، والتي تعد من القطاعات الجديدة والمهمة والتي تشهد تطورات متلاحقة في ظل التقدم التكنولوجي السريع.

وبالنسبة للعالم، تعد الاتفاقية خطوة مهمة نحو الالتزام بتنفيذ ما جاء في الإعلان المشترك لقادة قمة مجموعة العشرين في نوفمبر 2020، الذي أكد أن «التجارة مهمة الآن كما كانت دائماً»، وأنه يجب أن تركز الحكومات حول العالم على «السعي إلى توفير بيئة تجارية واستثمارية حرة وعادلة وشاملة وغير تمييزية وشفافة ومستقرة ويمكن التنبؤ بها مع إبقاء الأسواق مفتوحة».

وكونها دولة فاعلة في المجتمع الدولي، فإن الإمارات ومن خلال برنامج اتفاقيات الشراكة الاقتصادية العالمية ستواصل المساهمة في تحقيق هذا الهدف، لأننا دولة تجارية منذ القدم ويرتبط تاريخها العريق وتراثها الأصيل ارتباطاً وثيقاً بالطرق البحرية بين الشرق والغرب. ويمثل القطاع اللوجستي والأنشطة المرتبطة أكثر من 30 % من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للدولة.

ولذا تدرك الإمارات أهمية سلاسل التوريد المستدامة والمرنة، وأنظمة التجارة القائمة على تكافؤ الفرص، والأسواق العالمية المفتوحة أمام بضائع وخدمات الدول النامية والشركات الناشئة.

إن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الهند، خامس أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان، هي باكورة سلسلة من الاتفاقيات المثيلة التي ستتيح فرصاً هائلة للنمو والازدهار، ليس للدولتين فقط، ولكن للمنطقة ككل.

وختاماً، فإنه بالتوازي مع تطلع الإمارات لإطلاق الإمكانيات الكامنة لاقتصادها الوطني في مرحلة ما بعد الجائحة، فإن الخمسين عاماً المقبلة من مسيرة النجاح الاقتصادي والتجاري والاستثماري تبدأ من هنا.

* وزير الاقتصاد