لا أعرف من أين جاء الإلهام للزعيم الثوري الفرنسي جورج دانتون، الذي قال وهو يساق إلى المقصلة من قِبَل رفاق الأمس، إن «الثورة تأكل أبناءها». كان دانتون محامياً وخطيباً بارعاً من زعماء الثورة الفرنسية وواحداً من الذين أنشأوا محاكم الثورة، ولكنه اختلف مع روبسبير على كثرة الإعدام والعنف المبالغ فيه، فكلفه ذلك حياته. اتُهم زوراً بأنه يتآمر لإعادة الملكية، وكان من الذين اتهموه بذلك روبسبير، فقُطِع رأسه بالمقصلة في السادس من شهر إبريل عام 1794 وهو في السادسة والثلاثين من عمره. بعد أقل من 3 شهور كان روبسبير نفسه يقاد إلى المقصلة مع 100 من أتباعه ليُعدَموا جميعاً، بعد أن وصل عدد الذين أُعدِموا على يده إلى ستة آلاف شخص في ستة أسابيع. ذهب دانتون وبقيت مقولته الشهيرة «الثورة تأكل أبناءها».

صحيح أنها كانت ليلة، ولكنها ليست مثل أي ليلة، ففيها تتحدد مصائر وتُكتَب حياة لأناس وتُسلَب حياة من أناس. إنها ليلة الحسم الذي إنْ لم يأتِ في وقته فإنه لن يأتي أبداً. «ليلة السكاكين الطويلة» هو الاسم الذي أُطلِق على الليلة التي تخلص فيها الزعيم الألماني أدولف هتلر من رفاقه الذين أوصلوه إلى السلطة، بعد أن علم أنهم يخططون للإطاحة به في ليلة هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم، فإذا بالسكاكين التي أعدوها للقضاء عليه تصل إلى رقابهم هم قبل أن تصل إلى رقبته. بدأت «ليلة السكاكين الطويلة» يوم 30 يونيو وانتهت يوم 2 يوليو 1934. كانت ليلة طويلة بحق، تخلص خلالها هتلر من حليفه السابق إرنست روم وكتيبة العاصفة «S A». كان حصاد «ليلة السكاكين الطويلة» مئات القتلى واعتقال أكثر من ألف معارض، واستتباب السلطة لهتلر من دون منازع. الدعاية النازية عرضت عمليات القتل كإجراء وقائي ضد انقلاب وشيك مزعوم من قبل كتيبة العاصفة تحت قيادة روم. هكذا تأكدت مقولة دانتون الشهيرة «الثورة تأكل أبناءها».

كان تروتسكي، إلى جانب لينين، أحد زعماء الثورة البلشفية التي أنهت حكم القياصرة في روسيا عام 1917م. كان مؤسس الجيش الأحمر الذي شيده البلاشفة بعد ثورة أكتوبر، وعضو المكتب السياسي إبان حكم لينين، وصاحب الأثر الفعال في القضاء على أعداء الثورة، إلى درجة أن أغلب الشعب اعتقد أنه سيخلف لينين في رئاسة الحزب. ولكن ستالين كان له رأي آخر، وكانت له اليد العليا التي أقصت تروتسكي، فتم إعفاؤه من عضوية المكتب السياسي للحزب بتهمة النشاط المعادي، وجرى نفيه خارج الاتحاد السوفييتي، بينما أُعدَم أنصاره كلهم. وبعد التنقل بين دول عدة استقر المقام بتروتسكي في المكسيك، ليتعرض هناك لمحاولة اغتيال عام 1940م، زرع خلالها المهاجمون بيته بالديناميت وأمطروه بالرصاص، ولكن تروتسكي لم يكن في المنزل وقت الهجوم. بعدها بثلاثة شهور نجح العميل السوفييتي رامون ميركادير في اغتيال تروتسكي بضربة فأس على رأسه، ليموت متأثراً بجراحه. هكذا تخلص ستالين من تروتسكي مثلما كان قد تخلص قبله من كامينيف وزينوفيف، اللذين تألفت منهما معه الحكومة الثلاثية بعد وفاة لينين. بهذا تأكدت مقولة دانتون الشهيرة «الثورة تأكل أبناءها».

لا أعرف لماذا اختار صدام حسين «قاعة الخُلْد» مكاناً لحفلة السكاكين الكبيرة التي أقامها لرفاقه في الحزب يوم 22 يوليو 1979. قبلها بأيام، يوم 16 يوليو، كان قد تم نقل رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة وقيادة حزب البعث إلى صدام حسين، على أثر استقالة الرئيس أحمد حسن البكر التي بثها التلفزيون. في يوم الحادثة عقد صدام حسين اجتماعاً لقادة الحزب في «قاعة الخلد». خلال الاجتماع أعلن صدام حسين أنه اكتشف طابوراً خامساً داخل الحزب ومؤامرة من حزب البعث السوري للاستيلاء على السلطة في العراق. أمام الحضور اعترف القيادي البعثي عبدالحسين، الذي بدا مشتتاً ومرتبكاً، بالمؤامرة وقدم قائمة بأسماء 68 قيادياً متهماً بالمشاركة فيها. طلب صدام حسين من كل قيادي يسمع اسمه مغادرة القاعة، فغادروها واحداً تلو آخر، حيث كان هناك من ينتظرهم خارجها. بعدها هنأ صدام حسين أولئك الذي بقوا داخل القاعة على ولائهم وإخلاصهم للقيادة. بحلول الأول من أغسطس كان قد تم إعدام المئات من أعضاء حزب البعث رفيعي المستوى، ووُزِّع شريط تلفزيوني عن التجمع وعمليات الإعدام. كانت ليلة سكاكين تأكدت خلالها مقولة دانتون الشهيرة «الثورة تأكل أبناءها».

تختلف البلدان والأنظمة والأسماء والوجوه، وتكرّ الليالي، ولكن السكاكين تبقى واحدة، حتى لو تفاوتت أطوالها.

 

* كاتب وإعلامي إماراتي