لقد ساد اعتقاد خاطئ في أوساط المجتمع، بأن العلوم الطبيعية والرياضية، هي العلوم الأساسية الضرورية للتقدم والتطور، وأن ليس هناك من فائدة ذات أهمية كبيرة للعلوم الإنسانية. وترتب على اعتقاد كهذا، الاهتمام الزائد بالعلوم الطبيعية تدريساً في المدارس والجامعات، مع إهمال للعلوم الإنسانية.
وهذا بدوره أفقد العلوم الإنسانية هيبتها، والمكانة اللائقة بها في المجتمع. ناهيك عن أن هناك سياسة غير معلنة في الوطن العربي، للتضييق على البحث في واقع الإنسان ومصيره.
في واقع كهذا، راح المجتمع يفتقر شيئاً فشيئاً إلى مهندسي الفكر وصانعي الثقافة. ببساطة، لقد فقد المجتمع عقله الذي يفكر بمشكلات الإنسان.
ما العلوم الإنسانية؟ إنها ببساطة، هي التي تجعل من الإنسان في كل أشكال وجوده الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتاريخية، موضوعاً لها. إن الأمر، وهو كذلك، يجعل من واقع الإنسان ومستقبله، هدف دراسة العلوم الإنسانية وأبحاثها.
وببساطة شديدة، هناك أسئلة لا تنفك العلوم الإنسانية عن البحث للإجابات؟ لماذا هناك فقر في العالم؟ لماذا تقوم الحروب الداخلية وبين الدول؟ ما دور الثقافة الروحية في ارتقاء الإنسان الأخلاقي؟ متى يكون الحكم رشيداً؟ كيف نربط بين السياسة والقيم الإنسانية؟ كيف يتحقق العيش المشترك في إطار التسامح؟ متى تكون الدولة دولة تسامح؟ كيف نغير الواقع نحو الأحسن؟ ما الممكن وما الواقع وما الوهم؟ لماذا كان هناك تعصب أيديولوجي وديني؟.
هذه الأسئلة وغيرها، أسئلة الوجود الإنساني، ومرتبطة بمصير الإنسان على هذه الأرض.
ها نحن نعيش ثورة في التقدم العلمي، وأصبح العالم بكل تفاصيله حاضراً على جهاز صغير، والتواصل الذي ما كان ممكناً بين البشر قبل خمسين عاماً، صار ممكناً في لحظة، أجل، إن التقدم العلمي وفر للإنسان أدوات لا تحصى للتحكم في الطبيعة. ومع ذلك، يطرح الإنسان مشكلاته المرتبطة بالسعادة، لماذا؟.
الجواب هو ببساطة، لأننا لا نفكر في العلاقة التي يجب أن تقوم بين التقدم العلوم الطبيعية والأساس الأخلاقي لها.
ولهذا، فإن المجتمعات البشرية الآن، لا تستطيع أن تواجه مشكلاتها دون العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
هذا يشير إلى قضية على غاية كبيرة من الأهمية، ألا وهي أن البحث العلمي الطبيعي، والبحث العلمي في العلوم الإنسانية، يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من سياسة الدولة لمواجهة المشكلات التي تسعى لحلها. ودون هذه السياسة، تظل نتائج البحث مجردة، لا قيمة واقعية لها، لأنها تظل دون استخدام. الحلول الممكنة للمشكلات التي يعالجها. الآن ما واقع البحث في العلوم الإنسانية في الوطن العربي.
إن الصورة لواقع البحث في الوقائع، صورة كارثية جداً، وما خلا الجهود الفردية التي يبذلها محبو المعرفة، فإن الوطن يكاد يكون خلواً من البحث العلمي للعلوم الإنسانية.
فالجامعة التي من المفترض أن تكون المكان الأهم في ممارسة العلوم الإنسانية، بحوثها غائبة غياباً شبه كلي. فليس في الجامعات أي مراكز بحوث عامة أو متخصصة في المشكلات الإنسانية، وبالتالي، فالمركز يقوم على جهود فردية، ليس إلا. فهل يعقل ألا تكون الجامعات مصدراً مهماً من مصادر إنتاج المعرفة الإنسانية بالمشكلات الكثيرة التي يعج بها وطننا.
العلوم الإنسانية تسأل ما الشروط الاجتماعية - المعيشية التي تنتج الظواهر السلبية في المجتمع.
علم الاجتماع، يقوم بدراسة ميدانية إحصائية، ليستخلص النتائج النظرية. وعلم السياسة يسأل: هل التعصب ظاهرة سياسية صرفة؟ ما الشروط السياسية التي اتخذتها؟ ويسأل علم النفس: هل مشكلات المجتمع ناشئة عن شعور بالإحباط والنكوص لفئات اجتماعية محددة؟.
وبدوره، يدرس علم التاريخ الظاهرة في تاريخها، وهنا، تأتي الفلسفة لتستفيد من كل نتائج هذه العلوم، لتقدم تحليلها النظري العام. كم ستسهم العلوم الإنسانية إيجابياً، حين تجعل من الظواهر الاجتماعية موضوع بحث في فهم هذه الظواهر وتجاوزها.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني