ربّما تكون شهادتي مجروحة في حقه، لأنّني أحبّه، وأحب إصراره على أن يكونَ مميَّزاً بين معاصريه، في طريقة تفكيره، وفي شغفه بالقراءة بلغاتٍ شتَّى، وفي صلابة رأيه، بل وفي اعتداده بنفسه، حتى إن قوله هو أحق أن يؤخذ به، لأنه يقول عن علم ودراية وحصافة رأي، وسعة اطّلاع.

والذي يزيدني إعجاباً به، هو أنه بسم الله ما شاء الله، يقترب من التسعين في العمر، لكنه يتذكّر ما يريده، وما نريده نحن منه، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنَّما يدلُّ على أنّه ليس كواحد منّا، ففوق كلّ ذي علمٍ عليم، ومَن حفظ، حجة على من لم يحفظ، وربّ ذاكرةٍ حيّة، أفضل من ألف ذاكرة ميتة.

نعم... ولا أبالغ إذا قُلت بأنّ أستاذنا عبد الغفار حسين، عملة صعبة في زمنٍ صعب، وصدق الشَّاعر إذ يقول:

إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها

عَلى الكَثير وَلَكِن لا أَرى أَحَدا

إنّني لا أعاني اليومَ من قلّةِ الأسواق، ولكن أعاني من قلّة الأذواق، أرى الكثيرين يعرضون بضائعهم، لكن نادراً ما تتصف بالجودة، والجودة في نظري ونظر أمثال الأستاذ عبد الغفار، غير الجودة في نظر شباب اليوم.

لذلك، فإنَّه على مكانته يتعرَّض للانتقاد حين ينقُد، وللهجوم حين يدافع، والسبب أنَّ قرَّاء اليوم، غير قرَّاء زمان، وقد قيل لأبي تمام: لمَ تقولُ ما لا يُفهم؟، ردَّ عليه قائلاً: ولمَ لا يُفهم ما أقول؟، ما أجملَ هذا التعبير، وما أعظم عصر أولئك العظماء، الذين أفتقدهم اليوم في كلِّ كتاب، وفي كلِّ قصيدة، وفي كلِّ مقال، وفي كُلِّ نادٍ أدبيٍّ أو ثقافي أو فكري.

إنَّ الكاتبَ القدير عبد الغفار حسين، كتب عن أجيال، وعاصر الأجيال، وما زال عارفاً بهم في كل حال، وإنني أخذته يوماً إلى أسواق دبي القديمة، بعد أن لبست حلتها الجديدة، فإذ به يقول لي: هذا محل العقيلي الشاعر، وذاك مكان الكرسي الذي كان يجلس عليه الشيخ حشر بن مكتوم، حين كان ينظر في قضايا الناس، وفي هذه الزاوية، كان سوق المناظر، وفي هذه البقعة كانت سوق العرصة المشهورة، وهكذا، كان يحدد لي الزمان والمكان، وكنت أقول في نفسي، كما قال الشاعر:

إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا

فَإِنَّ القَولَ ما قَالتْ حَذَامِ

أجل...... ما عليه شيء، لو داعبنا ببعض عباراته، فلكلِّ وردة شوك، ولكل زنبور نحلٍ لَسعة، ومع ذلك، فلا أحد يكره الورد، ولا أحد يكره العسل، وكم تحمّل قيس بن الملوّح من تباريح الشوق، من أجل عيون ليلى.

لذلك، أقولُ لكلِّ عشَّاق التاريخ والفكر والأدب: قلِّلوا من عتابكم لأهلِ القلم الرصين، والذاكرة الخصبة، إذا كانت محاسنهم أكثر من مساويهم، واسألوهم قبل أن تفقدوهم، وما أجمل قول الشاعر:

إذا كُنتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتباً

صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتِبُهْ

وَمَن ذا الَّذي تُرضي سَجاياهُ كُلُّها

كَفى المَرءُ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

هذا، وإنَّني بعد أن شرَّفني الكاتب الكبير عبد الغفار حسين، بدعوتي إلى حضور حفل توقيع آخر إصداراته، أقول له:

أستاذنا الجليل، عبد الغفار حسين، تشرفتُ أول من أمس، في مؤسسة سلطان العويس الثقافية، بحضور حفل توقيع كتابكم الجديد، كُتب وكتّاب - الجزء الأول منه، الذي يقع في أكثر من 800 صفحة، وتناولتَ فيه 150 كاتباً وكِتاباً.

هذا الكِتاب، هو مقالات في الأصل نشرت في الصحف في حينها، وكان، ولا يزال، لك تألق في كل رمضان، ووقفة مع كوكبة من هذه الشخصيات، لكن الجديد اليوم، أنك جمعتها في سِفر واحد، وأضفيتَ عليه روح الإخراج الجميل، فسَهُلَ الوصول إلى ما أردتَ قوله، ولك أسلوبك طبعاً في فهم الكِتاب وكاتبه.

أستاذنا أبا نبيل: أتابعك منذ مجلة أخبار دبي، التي كانت تصدر قبل الاتحاد، ثم صحيفتي «البيان» و«الخليج»، فأنت بجانب عملك الرسمي في بلدية دبي، أسهمت في مجال الأدب والتاريخ، وفي المجتمع، وكم جمعَنا مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي يعتز به العلم والأدب والفكر والسياسة والاقتصاد، ويقدر فيه إبداع الرجل والمرأة.

ومن خلال تقديمك لأكثر من كتاب لي، عرفتك متواضعاً وناصحاً سليم النية، غير حاقد ولا حاسد، ووجدتك ذا ثقافة حرة وواسعة، تقرأ بأكثر من لغة، وألفيتُك كاتباً صحافياً جريئاً، وناقداً وطنياً صريحاً غير مُجامل، وأديباً ذا حسّ شاعري، ومؤرخاً ثـبْتاً يُعتمد عليه، وجئت الأول في كثير من المواقف تأسيساً أو كتابة.

أشكرك على إصداراتك العديدة، وأرجو لك طول العمر والصحة والعافية، وأتمنى أن أرى لك موسوعة شاملة في تاريخ الإمارات، فأنت البَدر الذي يُفتقد في الظلماء.