- ها هو موكب الخليفة يقترب..

علا صوت الطبول، فخرجنا إلى مدخل الخيمة، ووقفنا نتطلع إلى بهاء الموكب القادم نحونا. الحاكم بأمر الله يركب فرساً مسرجة، ويتزيا بالأردية الحريرية ذات الزركشة المذهبة، وعلى رأسه العمامة المبثوث فيها قطع الجواهر البراقة. ومن حوله يصطف حاملو البنود والرايات وضاربو الطبل، ومن خلفهم صفان من الجند في الملابس العسكرية، خلفهم الطرّادون الذين يُبعدون عن سير الموكب، العوامّ الذين احتشدوا على الجانبين. وخلف «الحاكم» حامل المظلة وجماعة من الأستاذين المحنكين، خلفهم عدد من رؤساء الدواوين وكبار رجال الدولة.

بعد وصول «الحاكم» بوقت قليل، وصل ابن الهيثم، يركب بغلة، ومن حوله دواب يحملون الكتب، ومن حولهم حرس كثير، جاء بعضهم معه من الشام، وانضم بعضهم الآخر إليه حين اقترب من القاهرة.. تقدم «الحاكم» خطوات من ابن الهيثم، فنزل العلّامة وسلم عليه يداً بيد، من دون أن يجثو أمامه ويقبل الأرض، مثلما يفعل رجال الدولة وأصحاب الحاجات...

دار حوار بين الحاكم بأمر الله وابن الهيثم، كان «الحاكم» يناديه خلاله «يا حكيم». قال ابن الهيثم:

- ... لكن يا أمير المؤمنين، أنا لست بحكيم، وإنما محب للحكمة. الحكيم هو الله.

- هذا كلام قدماء اليونانية. قال الحاكم.

- نعم يا سيدي، والحكمة ضالة المؤمن، يجدها عند اليونان، وقد يجدها عند الصقالبة. رد ابن الهيثم.

- صدقت، لكنه لن يجدها أبداً عند طالبي الدنيا والمتكالبين عليها، وقد بلغني أن لك في الزهد مذهباً. قال الحاكم.

- مذهبي بسيط يا مولاي، كل ما زاد عندي عن حاجة يومي، فهو عبء عليّ. أجاب ابن الهيثم.

- بارك الله فيك، قال الحاكم.

دار هذا الحوار بين الخليفة الفاطمي «الحاكم بأمر الله»، والعالم المولود بالبصرة، الحسن بن الهيثم، الذي عاش معظم حياته في القاهرة. كان الحاكم بأمر الله، قد سمع مقولة ابن الهيثم «لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان»، فدعاه لتنظيم فيضانات النيل، وأمده بما يريد للقيام بهذا المشروع.

تفاصيل ما حدث قبل قدوم ابن الهيثم إلى مصر، وبعد قدومه، جاءت في مخطوطة مطيع بن عرفة بن خلف السهمي، التي بنى عليها الكاتب يوسف زيدان أحداث روايته «حاكم.. جنون ابن الهيثم». يقول مطيع في مقدمة مخطوطته: (ولسوف أقصّ ما جرى معي، منذ ابتداء شأني الهين، فمن ذلك نشأتي بالفسطاط يتيماً، في بيت جدي «خلف»، ثم ما وقع في حداثتي من أمور، منها صحبة الأمير «منصور»، الملقب لاحقاً بالحاكم بأمر الله، ولقائي بأخته الخطيرة ست المُلْك، وملازمتي للجليل الجدير بالتوقير الوفير، الحسن بن الهيثم، الخليق حقاً بصفة الحكيم).

الشاهد في هذا الجزء من المخطوطة، هو تقدير العلماء، هذا التقدير الذي دفع خليفة مثل الحاكم بأمر الله، على ما عرف عنه من شدة وإسراف في القتل، إلى الذهاب في موكب إلى خارج سور القاهرة، لاستقبال عالم جليل مثل ابن الهيثم، وهو كما يصفه مطيع «رجل عجيب الخلقة، قصير نحيل ضئيل الحجم»، وبعد أن ينتهيا من تناول طعام الغداء، يقول له:

- أما الآن فسندخل إلى القاهرة لترتاح من مشقة السفر، وستكون إقامتك في قصر يليق بك..

فيرد ابن الهيثم قائلاً:

- يا أمير المؤمنين، لا عهد لي بسكنى القصور، ولا شغف عندي بذلك. يكفيني منزل صغير، أو حجرة تسعني وتتسع لكتبي.

لا يعترض «الحاكم» على رغبة العالم، فيقول له:

- لك ما تريد.. هيا إلى القاهرة.

ساروا بعد ذلك جميعاً، والناس يحتفون بالموكب، ويهتف كثير منهم لتحية الحاكم، وعندما عبروا من بوابة القاهرة، ثم وصلوا عند باب الذهب، ودّعهم الحاكم، بعد أن همس لمطيع أنّ الخدم سيذهبون معه إلى المنزل المخصص لسُكنى ابن الهيثم، وطلب منه أن يعود إليه بعد أن يطمئن على راحة الضيف الجليل. كان المنزل، كما يصفه مطيع، لطيف البناء، أنيقاً بلا بذخ، يلاصق القصر الغربي من الجهة الجنوبية، وبمدخله حديقة كثيرة النباتات.

هذا مجرد مثال من تقدير حاكم لعالم جليل. ويبقى السؤال: تُرى، هل يمكن أن يحظى اليوم عالم بمثل ما حظي به ابن الهيثم، أو على الأقل، بما يحظى به لاعب كرة قدم، أو نجم سينمائي، أو أحد مشاهير السوشيل ميديا، من اهتمام، فنجد من يكتب لنا: ولسوف أقص ما جرى معي...؟.