ما صرحت به وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلن، أخيراً، يعد مهماً، إذ أعادت ربط التجارة بالقيم. ودعت في خطابها أمام «أتلانتيك كونسيل» بواشنطن لإطار عمل جديد لاتفاقية «بريتون وودز».

وتجديد مؤسستي «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي». وذلك قبل أسبوع من عقد كلتا المؤسستين اجتماعاتهما السنوية.وأوضحت يلن أن الحرب الأوكرانية وعدم انضمام الصين إلى العقوبات المفروضة ضد روسيا شكلا نقطة محورية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي.

وفي المستقبل، لن تنطوي السياسة التجارية للولايات المتحدة على مجرد إطلاق العنان للأسواق، بل ستتمسك بمبادئ معينة، من السيادة الوطنية ونظام قائم على القواعد إلى الأمن وحقوق العمل. وعلى حد تعبيرها، يجب ألا يكون هدف الولايات المتحدة مجرد «تجارة حرة وإنما تجارة آمنة». ويجب ألا يسمح للبلدان باستخدام «موقعها في السوق في مجالات المواد الخام أو التقنيات أو المنتجات الرئيسة ليكون لها القدرة على تعطيل اقتصادنا أو ممارسة نفوذ غير مرغوب به». وتقول يلن إنه من الواضح أن في ذلك إشارة إلى سياسة روسيا البترولية، ولكن من الممكن أن تشمل أيضاً تصنيع الرقائق الإلكترونية في تايوان أو اكتناز الصين للمعادن الأرضية النادرة أو معدات الحماية الشخصية أثناء الوباء.

وصاغت يلن كلمة جديدة لعصر ما بعد النيوليبرالية باسم «دعم الأصدقاء». وستفضل الولايات المتحدة الآن «دعم الأصدقاء لسلاسل التوريد لعدد كبير من البلدان الموثوقة» التي تتقاسم معها «مجموعة من المعايير والقيم حول كيفية العمل في الاقتصاد العالمي». وستسعى أيضاً إلى إنشاء تحالفات قائمة على «المبادئ»، في مجالات مثل الخدمات الرقمية وتنظيم التكنولوجيا، على غرار صفقة الضرائب العالمية العام الماضي، التي قادتها.

وهذه ليست شعارات «أمريكا وحدها» أو حتى «أمريكا أولاً»، ومع ذلك فإنها تعترف بوجود اقتصاد سياسي لا يمكن أن تكون فيه التجارة الحرة حرة حقاً، إلا إذا كانت البلدان تعمل بقيم مشتركة وبتكافؤ للفرص على قدم المساواة. وهذا يختلف، ولا يختلف من بعض النواحي الحساسة، عن العصر النيوليبرالي الذي نمر به. فقد تم استخدام مصطلح «النيوليبرالية» لأول مرة في عام 1938 في ندوة «والتر ليبمان» في باريس، وهو تجمع ضم اقتصاديين وعلماء اجتماع وصحافيين ورجال أعمال أرادوا إيجاد طريقة لحماية الرأسمالية العالمية من الفاشية والاشتراكية.

وكانت تلك لحظة تتناغم من نواح كثيرة مع الفترة التي نمر بها. كانت أوروبا قد مزقتها الحرب العالمية الأولى. ولم يكن عقدا من سياسة الائتمان الميسر حتى عام 1929 قادراً على إخفاء التغيرات السياسية والاقتصادية الرئيسة التي أحدثت انقسامات هائلة في المجتمعات. وكانت أسواق العمل والهياكل الأسرية تتغير، وترك الوباء والتضخم ثم الكساد الاقتصادي والانكماش والحروب التجارية القارة محطمة اقتصادياً.

أراد النيوليبراليون إصلاح تلك المشكلات من خلال ربط الأسواق العالمية. اعتقدوا انه إذا تم ربط رأس المال والتجارة عبر سلسلة من المؤسسات التي يمكن أن تطفو فوق الدول القومية الفردية، فسيكون العالم أقل عرضة للانزلاق نحو الفوضى.

نجحت هذه الفكرة لفترة طويلة. ويرجع ذلك جزئياً لأن التوازن بين الحفاظ على المصالح الوطنية والاقتصاد العالمي لم يخرج عن السيطرة كثيراً. حتى خلال حقبة ريغان – تاتشر في ثمانينات القرن الماضي، كان هناك لا يزال شعور بأن التجارة العالمية، على وجه الخصوص، لا بد أن تخدم المصلحة الوطنية. وفي حين الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ربما من أنصار التجارة الحرة، إلا أنه استخدم التعريفات الجمركية ضد اليابان وأيضاً دعم السياسة الصناعية (كما فعلت وتفعل معظم الدول الآسيوية الأخرى والعديد من الدول الأوروبية).

بدأ التحول في الولايات المتحدة، خلال إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي عقد سلسلة من اتفاقيات التجارة الحرة التي بلغت ذروتها بدخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. والآن، يعترف القادة في كل مكان بواقع مشكلة «عالم واحد، نظامان».

تقول يلن إنها تأمل «ألا ينتهي بنا الأمر بنظام ثنائي القطب»، خاصة بالنظر إلى مدى استفادة الصين نفسها من النظام النيوليبرالي. لكن «مشكلات حقيقية ظهرت» بإقرار يلن التي قالت «تعتمد الصين في نواح كثيرة على الشركات المملوكة للدولة وتنخرط في ممارسات اعتقد أنها تضر بشكل غير عادل بمصالح أمننا القومي، كما أن سلاسل التوريد متعددة الجنسيات برغم أنها أصبحت فعّالة جداً وممتازة في خفض تكاليف الأعمال إلا أنها لم تكن مرنة»، وهاتان قضيتان يجب معالجتهما، حسب قولها.

إن مفترق الطرق الذي نعيشه اليوم لا يختلف عن ذلك الذي واجه المفكرين النيوليبراليين الذين صاغوا نظام «برتون وودز» الأصلي. لم ينطلقوا من فكرة أسواق «دعه يعمل دعه يمر» التي تعمل لمصلحتهم الخاصة، ولكن بالأحرى مع مشكلة إنسانية للغاية، وهي كيفية ترقيع عالم مزقته الحرب لبناء مجتمع أكثر أماناً وتماسكاً، مجتمع يتم فيه ضمان الحرية والتحرر والازدهار. ولم تستطع الأسواق أن تفعل ذلك بمفردها، كانت هناك حاجة إلى قواعد جديدة.

وهذا هو الوضع الذي نحن فيه الآن. قد يجادل المرء أن هذا التحول قد فات موعده. فالرأسمالية العالمية على مدار الـ20 عاماً الأخيرة، تقدمت أبعد بكثير بما يتجاوز المخاوف المحلية في بعض الدول القومية الفردية، وبلدان ذات أطر سياسية واقتصادية وحتى أخلاقية شديدة الاختلاف لم تلتزم جميعها بنفس القواعد العالمية. وفي ظل ظروف كتلك، فإن الأسواق العادلة والحرة تبدأ في الانهيار.

واليوم بدأت للتو عملية صياغة اتفاقية «بريتون وودز» جديدة، في وقت تشكل القيم التي تريد الديمقراطيات الليبرالية التمسك بها أمر جيد للانطلاق. كاتبة عمود اقتصادي في صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية