في كل عصر يشعر الناس أنهم يعيشون أوقاتاً صعبة ويخوضون مشكلات غير مسبوقة. وفي كل حقبة يسيطر بين الحين والآخر على كثيرين شعور جارف بأن الحياة باتت مليئة بالصدمات ومحفوفة بالمخاطر بشكل لم يشهده أحد سواهم.
هذه سنّة الحياة وطبيعة البشر. لكن أدعي أن السنوات القليلة الماضية والحالية من عمر البشرية هي الأكثر غرابة والأعمق التباساً. العلم يحقق قفزات ضخمة ويكشف الستار عن ألغاز حيرت البشرية لقرون. أدوية كثيرة تم ابتكارها تعالج أمراضاً كانت حتى الأمس القريب قاتلة.
أجهزة وتقنيات لا حصر لها خرجت إلى النور وأصبحت في متناول الشخص العادي سهلت حياته ويسرت أموره. تطبيقات ومنتجات رقمية تنضوي تحت مظلة الثورة الرقمية جعلت العالم عالماً آخر غير الذي كنا نعرفه حتى تسعينيات القرن الماضي.
لكن هناك شعوراً عارماً في أرجاء المعمورة بأن العالم آخذ في الانهيار. وباء كوفيد 19 قلب الحياة رأساً على عقب، مع العلم أن رأسها لم يكن في أفضل حال قبل سطوة الوباء.
مؤسسات مالية عالمية كبرى قالت إن «الإغلاق العام الكبير» أثناء الوباء تسبب في أسوأ هبوط اقتصادي منذ «الكساد الكبير»، وهي الأزمة التي بدأت في عام 1929 واستمرت لما يزيد على عقد كامل. وتسببت في خسائر تقدر بمليارات الدولارات وانهيارات اقتصادية كبرى وتحولات سياسية غير مسبوقة.
وما كاد العالم يبدأ في شم أنفاسه ولملمة جراحه الاقتصادية والنفسية والاجتماعية جراء الوباء، حتى جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. الحرب لا تفاقم الآثار السلبية الناجمة عن الوباء فقط، لكنها تخلف هالة من الضبابية والغموض حول المستقبل وبالطبع الحاضر.
هذه الأوضاع العالمية تؤثر على كل بقعة من بقاع الأرض. التأثيرات المادية معروفة. لكن التأثيرات النفسية والعقلية تجعل كثيرين يشعرون أن العالم يتهاوى من حولهم. وفي مثل هذه الأوقات الصعبة يزداد دور الصحافة الرصينة. والرصينة ليست المملة أو الجامدة أو البطيئة. إنها المتعقلة الرزينة الهادفة إلى الإخبار دون افتعال، والشرح دون انحياز، والتحليل دون رياء أو كذب أو تهويل أو تهوين.
استهان البعض بمقال نشرته «نيو يورك تايمز»، أو فلنقل اعتبر المقال كغيره. أهمية المقال في عنوانه. «هل العالم بالفعل يتهاوى؟ أم أنه يبدو هكذا؟» طرح السؤال بدا وكأنه الخلاص لكثيرين. فهذا الشعور المفزع يتملك من كثيرين، لكن قلما يطرحه أحد على ملأ الإعلام بشكل لا يعمد إلى الإثارة ولا يهدف إلى تحقيق المشاهدات وإحراز الـ«لايك» والـ«شير» لفرط جدلية السؤال أو غرابة المحتوى.
تتلخص الفكرة في أن السؤال دق على وتر واحد على الأقل في داخل كل منا. وهذا يعني أن المسألة تستدعي وتستحق وتستوجب معالجة إعلامية رصينة.
والحقيقة أن الإجابة، أو على الأقل العرض والتحليل، لمسألة هل يتهاوى العالم من حولنا وفوقنا فعلياً أم لا، ليست وحدها المستحقة للطرح الرصين وغير التقليدي، لكن مطلوباً أيضاً فهم وتحليل التوجهات والميول الحالية بين القاعدة العريضة من الجمهور.
الجمهور المتلقي حالياً يسعى إلى مادة مرئية أو مكتوبة وربما مسموعة. سريعة، جذابة، عميقة دون تطويل، ورشيقة دون إهدار لمعلومة مهمة أو تفصيلة فارقة. هذا الجمهور خليط غير متجانس: مراهقون وأحياناً أطفال، شباب، طلاب، عاملون، عاطلون، متقاعدون، مثقفون، نصف مثقفين، مؤدلجون، لا ينتمون لخلفيات سياسية أو فكرية بعينها، غارقون في المحلية، يحلقون في العالمية، أغنياء، فقراء، متوسطو الحال، متزوجون، عزاب، مكتئبون، سعداء، محبطون، متفائلون والقوس مفتوح.
أتصور أن الصحافة القادرة على جذب مثل هذا الطيف الثري بتنوعه وتناقضه جديرة بجائزة نوبل في الصحافة التي لا وجود لها. لكن هناك وجوداً قوياً وحاضراً وعاملاً وباحثاً وساعياً لتحقيق هذه المقدرة واستدامتها عبر تجديد مستمر وتحديث لا يفتر. وهنا يبزغ دور «نادي دبي للصحافة» و«جائزة الإعلام العربي» التي أصبحت على مدار عقدين خارطة طريق للصحافة والصحافيين العرب.
ومع الإعلان قبل أيام عن العودة إلى انعقاد أعمال «منتدى الإعلام العربي» فعلياً وليس افتراضياً بعد عامين من عمر الوباء، وإشارة منى غانم المرّي، رئيسة نادي دبي للصحافة عن النسخة الجديدة من «جائزة الإعلام العربي» واحتوائها على محوري الإعلام الرقمي والمرئي، يعاد التأكيد على دور الإعلام الآخذ في القوة وليس التضاؤل في عصر يتعطش فيه المتلقي للصحافة التي تقدم له المعلومة المقروءة والمرئية والمسموعة مع شرح وتحليل ونقاش رصين في قوالب جديدة ترتكز على الصحافة الرصينة التي تساعده في العثور على إجابة: هل العالم يتهاوى؟ أم يبدو هكذا؟».