مما لا جدال فيه أن البعثات الأجنبية المتخصصة في التنقيب عن الآثار لعبت دوراً كبيراً في البحرين ومنطقة الخليج لجهة الكشف عن آثارها القديمة وما في جوف أراضيها من كنوز ودلائل على حضاراتها الغابرة، فلولا جهود رجالها المتخصصين وشغفهم باكتشاف الحضارات المجهولة لما تمّ العثور على معظم الرسومات والنقوش والأختام والأواني والنقود والمدافن وغيرها من الأشياء المنطوية على سر الوجود على هذه البقعة من العالم.

وعند تناول هذا الموضوع، فلا مناص من التوقف طويلاً عند جهود البعثة الدنماركية، كونها الأولى التي قدمت إلى البحرين، وعملت أيضاً في شرق السعودية ودولة الإمارات والكويت. على أن تسليط الضوء على جهود بعثة التنقيب الدنماركية لا يكتمل دون الحديث عن البروفسور «توماس جيفري بيبي»، فهو من قاد البعثة الدنماركية الأولى إلى جانب زميله ومعلمه «بيتر غلوب»، وهو من انشغل بالبحث عن الحضارات في كل مكان وتعلم اللغات الشرقية لهذا الغرض وتنقل من بلد إلى آخر إلى أن حل بالبحرين، فكان له الفضل في تحريك السكون المخيم عليها لجهة أعمال التنقيب عن الآثار والشواهد الدالة على حضارتها الإنسانية القديمة، وتمكن بجهوده وعلمه من تبيان حقيقة كون البحرين ومناطق الخليج العربي ضمن دائرة الحضارات العريقة، فصار يُعرف بـ«مكتشف حضارة دلمون»، و«رائد الأبحاث الأركيولوجية العربية» والعالم الذي وضع حداً للتساؤلات الطويلة حول مكان «مملكة دلمون» التي ورد ذكرها في ملحمة جلجامش السومرية حوالي سنة 2100 قبل الميلاد.

ولد بيبي في 14 أكتوبر 1917 في قرية «هافيرشام» بجنوب انجلترا لأبوين بريطانيين، ودرس أولاً بمدرسة لانكستر الملكية للنحو ثم بكلية كونفيل وكالوس، قبل أن يلتحق بجامعة كامبردج لدراسة علم الآثار في الفترة السابقة لقيام الحرب العالمية الثانية. وبسبب ظروف الحرب لم يعثر على عمل في مجال تخصصه فالتحق بوكالة المخابرات البريطانية التي أرسلته إلى الدنمارك للانضمام إلى المقاومة الدنماركية ضد النازيين. واصل الرجل بعد انتهاء الحرب عملية البحث عن وظيفة تناسب تخصصه الأكاديمي، لكنه فشل مجدداً وهو ما جعله يترك بريطانيا وينتقل إلى العراق للعمل لدى «شركة نفط العراق» البريطانية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1950. وخلال هذه الفترة كان يتردد على بريطانيا، فالتقى في إحدى زياراته بمواطنته «فيبيكي تشيرنينغ» التي تزوجها عام 1949، ومن خلال زوجته فيبكي تعرف على البروفسور الدنماركي «بيتر فيلهلم غلوب» الذي ساعده في الحصول على وظيفة أكاديمية في «جامعة آرهوس» الدنماركية.

وهكذا، استوطن بيبي وزوجته الدنمارك. وفي عام 1953 قاد هو وزميله غلوب فريقاً من علماء وخبراء الآثار مكوناً من 30 شخصاً إلى البحرين، مدشناً بذلك أحد أكبر مشاريع البحث العلمية لمملكة الدنمارك خارج أراضيها، حيث قام بحفريات على مساحة ممتدة لنحو خمسين هكتاراً تحت أسوار «قلعة البحرين» (حصن برتغالي يعود تاريخه إلى القرن 16 الميلادي). كما ركز بيبي أبحاثه أيضاً على موقع آخر إلى الغرب من قرية باربار وهو موقع معبد بـُني في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وعلى موقع ثالث في جزيرة سترة. ومن خلال عمله المضني في هذه المواقع اكتشف ما يكفي من القطع الأثرية والمدافن لتأكيد أن دلمون كانت عاصمة غنية لمملكة مستقلة، وجنة أسطورية زاخرة بالمياه العذبة والخضرة، ومركزاً تجارياً متوسطاً بين حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة وادي السند، ومقراً لأكبر مقابر ما قبل التاريخ، أي تماماً مثلما ورد في الألواح السومرية. ولم تمضِ سنوات قلائل على عمل بيبي ورفاقه حتى اتسعت رقعة العمل التنقيبي في المنطقة بشكل كبير وظهرت الشواهد المتتالية والقاطعة حول أن البحرين كانت موئلاً لتاريخ سحيق يعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد.

ومن الضروري هنا الإشارة إلى بعض الحفريات وأعمال التنقيب البدائية التي شهدتها البحرين قبل قدوم بيبي ورفاقه إليها، ولعل أخبارها هي التي شجعت الفريق الدنماركي على القدوم لتحري الحقائق على الأرض والبحث عن لغز دلمون. ففي عام 1879 قام الكابتن الانجليزي دوراند بكتابة تقرير قصير تحدث فيه عن مدافن معدة للميتين في البحرين، تلاه العقيد الانجليزي بريدو، الذي قام خلال عامي 1906 و1907 بحفريات في مقابر عالي و67 من المدافن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بتكليف من دائرة الآثار والمتاحف التابعة لحكومة الهند البريطانية فوصفها بالمقابر الفينيقية، ليأتي بعده عالم الآثار البريطاني إيرنست ماكاي في عام 1925، مكلفاً من المدرسة البريطانية للآثار لإجراء مسح جديد لتلال المدافن، فكتب واصفاً البحرين بـ«الجزيرة المقبرة»، ومروجاً لفكرة أنها كانت قبل الإسلام أرضاً لدفن الموتى فقط. وبالعودة إلى بيبي نجد أن الرجل انغمس في حياة المجتمع القروي البحريني إبان فترة عمله، فراح يأكل ويشرب ويلبس مثلهم وكأنه واحد منهم، دون أن يتذمر من أي شيء سوى حرارة ورطوبة الطقس صيفاً. أما طريقة تفاهمه مع القرويين الذين عملوا معه فكانت باستخدام خليط من المفردات المحلية الدارجة وأخرى إنجليزية محوّرة تسندها لغة الإشارة.

بدأت البعثة الدنماركية أولى حفرياتها في 9 يناير 1954 بالاستعانة بخليط من العمال من جنسيات مختلفة (آسيوية وأفريقية وعمانية) ولم يكونوا فعلياً على دراية بطبيعة الأعمال التي يتطلبها التنقيب عن الآثار. ولأن النتائج لم تكن مشجعة، اقترح البروفسور غلوب أن تتم الاستعانة بعمال قرويين من سكان مناطق التنقيب نفسها، لكن هؤلاء لم يتشجعوا في بادئ الأمر، ووجدوا أن الأعمال المعروضة عليهم مخالفة لطبيعتهم الريفية إلى أن تمّ تغيير فكرتهم النمطية السلبية عن أعمال الحفر والتنقيب مع العمال الآخرين من خلال قيام بيبي وفريقه بتقديم الدليل على حسن معاملتهم للعمال المحليين والتماهي مع عاداتهم، طبقاً لما كتبه غلوب في كتابه «البحرين، البعثات الدنماركية في دلمون القديمة». واستمرت البعثة تعمل لمدة سبع سنوات، وضع بيبي على إثرها كتاباً وثق فيه رحلة عمل فريقه الأثري في منطقة الخليج العربي بأسلوب شيق. ومما قاله في هذا الكتاب الصادر عام 1969 أن العمل في البحرين دخل مرحلة جديدة منذ عام 1960 حينما أصبح روتينياً بعد سنوات من البحث والعثور على الأختام والتوابيت والتماثيل والأواني.

إن البعثة الدنماركية بقيادة بيبي وغلوب ليست فقط أول من بدأ التنقيب في البحرين بموافقة السلطات البريطانية، وإنما كانت أيضاً أول من بدأ التنقيب في الإمارات في فبراير 1959، وتحديداً في جزيرة أم النار على بعد عشرة أميال من مدينة أبوظبي، فعثرت على العديد من الكنوز الأثرية التي تعود إلى عام 2000 قبل الميلاد، ومنها تلال كانت عبارة عن مبانٍ خاصة لدفن الموتى، ومنها أيضاً هدايا فخارية وأسلحة نحاسية رافقت الموتى إلى قبورهم. واستمرت البعثة في عملها في الإمارات إلى عام 1971، شاملة زيارات وتنقيبات في واحة البريمي وفي عدة أماكن في أبوظبي وفي المتاخمة للربع الخالي، ولقاءات مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والمرحوم الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان .

ومن البحرين والإمارات امتدت أعمال البعثة التنقيبية الدنماركية نفسها إلى جزيرة فيلكا الكويتية، فعثرت في مارس 1960 على بقايا أطلال لسور ضمّ في أحد جوانبه نقشاً يونانيّاً يتكوّن من 25 سطراً. وهذا النقش هو في الأصل رسالة الملك الكبير (الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث) إلى والي جزيرة إيكاروس (فيلكا)، تحتوي توجيهاته لإنشاء معبد في الجزيرة. كما امتد نشاط بيبي ورفاقه إلى مدينة الهفوف السعودية في عام 1972، فكان ذلك مقدمة لأعمال مسح أثرية أثمرت لاحقاً عن اكتشاف مدينة متكاملة في «ثاج» يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي أو الفترة المعروفة باسم الدولة السلوقية في القرن الثالث قبل الميلاد.

وحينما أنهى بيبي عمله التنقيبي في البحرين والخليج عاد إلى الدنمارك فعمل هناك أميناً بمتحف موسغار إلى أن تقاعد عن العمل سنة 1987، لكنه لم ينسَ البحرين بدليل أنه لم يكف عن زيارتها وتفقد الآثار التي اكتشفها فيها، فقد زارها نحو 35 مرة كان آخرها عام 1997 أي قبل وفاته بأربعة أعوام عن 83 عاماً في السادس من فبراير سنة 2001 في مستشفى بالقرب من مدينة آرهوس الدنماركية، حيث عاش على مدى خمسة عقود. وكان زميله بيتر غلوب قد فارق الحياة قبله سنة 1985.

ترك بيبي خلفه عدداً من المؤلفات التي أصدرها في مجال تخصصه. والمعروف أن أعمال وأبحاث الرجل لم تقتصر على منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، وإنما شملت أيضاً أوروبا والعالم، بدليل أنه أصدر عام 1961 كتاباً بعنوان «منذ أربعة آلاف عام»، وهو بانوراما للحياة في معظم أنحاء العالم المأهول من عام 2000 إلى 1000 قبل الميلاد، وكان أصدر قبل ذلك في عام 1956 كتاباً بعنوان «شهادة الأشياء بأسمائها الحقيقية»، وهو دراسة استقصائية عن التاريخ الأوروبي القديم في عصور ما قبل العصر الحجري والبرونزي.