عرّفنا العقل في إحدى مقالاتنا، بأنه وحدة الدماغ والخبرة. ما الخبرة التي تكوّن العقل؟ إنها التعلم والمعرفة المكتسبة والثقافة الموضوعية التي يولد في أحضانها الشخص، وليس له يد في خلقها، على عكس الثقافة الإبداعية التي ينتجها الأفراد في الفن والأدب والفكر. وكل ما يقوم به العقل من نشاط، يعود عليه بثراء العقل. بهذا المعنى نقول، العقل هو أداة تفكير.
ولما كان العقل ثمرة ما أشرت إليه، فهذا يعني بأن البشر متشابهون في التفكير، ومختلفون في طريقة التفكير في الوقت نفسه.
فجميع البشر أينما كانوا يفكرون انطلاقاً من أن الكل أكبر من الجزء، وأن الإنسان يمر بحالة الطفولة والشباب والشيخوخة، ثم الموت، وأن واحداً زائد واحد يساوي اثنين، وأن الزواج الطبيعي يكون بين ذكر وأنثى، وهكذا، لكن البشر يختلفون في تعريف الحب، والموقف السياسي، والانتماء الأيديولوجي واللاهوتي، وتفسير سلوك الفرد، وهكذا.
لماذا تتفق أغلب العقول، إن لم تكن جميعها، على طريقة حل معادلة رياضية، وتختلف، بل وتتناقض في حل مشكلة سياسية.
قلة هم الذين يفكرون مجردين من الأهواء والمصالح والثقافة الموروثة، حين يتعلق الأمر بالسياسة والمجتمع. قلة هم الذين تسلحوا بمناهج المعرفة، كي يفكروا.
الذي يفكر متعصباً بفعل ثقافة تعصب تلقاها في الأسرة والمجتمع بأي شكل، ولأي مذهب، ولأي مصلحة فردية، هو عملياً لا يفكر بعقل سليم.
ولعمري، فإن مشكلة المشكلات التي تقف عائقاً أمام التفكير العقلي، هي تحول الأيديولوجيا إلى ثقافة موضوعية، وبخاصة إذا تحولت أيديولوجيا حزب أو حركة، تجعل المنتمين إليه وإليها خاضعين في تفكيرهم لحقائقها التي تعتقد بأنها حقائق مطلقة، لكنها، في حقيقة الأمر، لا تعدو سوى أقوال مرتبطة بتحقيق مصالح، ليس إلا.
لأن صناع الأيديولوجيا بالأساس، لا يفكرون إلا بمصالح دنيوية، حتى لو كان خطابهم لاهوتياً.
قلت مرة في نقاش، وأنا طالب في سان بطرس بورغ، لينينغراد سابقاً، أمام مجموعة من الطلاب الشيوعيين، بأن لينين ليس حجة في الفلسفة، فقامت الدنيا ولم تقعد عند أصدقائنا الشيوعيين.
لقد حوّلت الأيديولوجيا عقول هؤلاء المحتجين على قولنا إلى جسم صلب من الاعتقاد.
وبالمناسبة، فإن أغلب الذين احتجوا علينا، عادوا اليوم لتعصبهم الأصولي، لأن الثقافة التي تربوا في أحضانها وهم أطفال، هي التي شكلت طريقة تفكيرهم.
والطائفي الذي يفكر بعصبيته النافية للآخر، لا يفكر، وقس على ذلك من تثقف بثقافة عنصرية.
والأصولي الذي يفكر بإعادة التاريخ إلى الوراء لا يفكر. والجاهل بإنجازات المعرفة الإنسانية، يفكر في حدود عالمه الضيق، لأن عقله خالٍ من المفاهيم -عدة المعرفة- وأسير الأوهام المتوارثة لا يفكر.
وعليك أن تسأل بعد هذا كله: من ذا الذي يفكر إذاً؟ ما العقل الذي يفكر؟
حين تسود ثقافة قيمة الإنسان والاعتراف بالتسامح، بوصفه قيمة أخلاقية، فإننا نتحرر من العائق الثقافي الموضوعي، الذي يمنع العقل من التفكير بحرية.
حين نفكر اعترافاً بإنجازات العلوم، وتأسيساً على حقائقها، فإن العقل يفكر متخلصاً من عائق الثقافة الأسطورية.
وهنا، يجب أن نميز بين الأخطاء التي يرتكبها العقل دون سبب ثقافي، وعدم التفكير عقلياً. فحتى العلماء يخطئون، بسبب فرضيات ليست صحيحة، لكنهم يكتشفون أخطاءهم، ويبحثون عن الصواب.
أما من بهم علل ثقافية مؤسسة على الأوهام والجهل، فإنهم يعتبرون أوهامهم وجهلهم حقائق مقدسة. وهذا هو معنى الجهل المقدس.
وإن استراتيجية ثقافية في ظل انتشار وسائل التواصل المتعددة على غاية كبيرة من الأهمية، في وقت صارت هذه الوسائل منبراً لانتشار ثقافة ما قبل العقل.
إن هناك تاريخاً للعقل، هو تاريخ إنجازاته وأشكال وعيه، ومن يرصد تاريخ العقل، سيجد أن حركته بطيئة في التحرر من عوائقه المعرفة. لكن العقل اليوم يخوض معركة انتصار مناهج التفكير التي تولدت من معرفته بالواقع.