كنت في موسكو في العام الثاني لتولي «غورباتشوف» السلطة كرئيس للدولة، وأمين عام للحزب الشيوعي السوفيتي. كان ذلك في شتاء عام 1986 وكانت هي زيارتي الأولى للبلد الذي أقام أول نظام اشتراكي في العالم، وألهم كفاحه المرير والأسطوري ضد الاستبداد الإقطاعي وضد الفاشية والنازية جيلي، ووعده بعالم جديد سوف يسوده العدل الاجتماعي والمساواة والأمن والحرية لكل شعوب الأرض.
«موسكو لا تؤمن بالدموع» كان ذلك هو أشهر الأفلام السوفيتية الذي ظهر عام 1979 وحاز عام 1981 جائزة الأوسكار الأمريكية كأحسن فيلم أجنبي لمخرجه «فلاديمير منشوف». تذكرت أحداثه في اليوم الأول لزيارتي موسكو «غورباتشوف». الفيلم يروي بنعومة وواقعية وصدق، قصة شابة ريفية تحل على العاصمة السوفيتية موسكو في العام 1958 بحثاً عن طريق مهني، ويسرد العقبات التي واجهتها، والسبل التي تمسكت بها ومكنتها، بالاجتهاد والإرادة الفولاذية من التغلب على العراقيل التي اعترضت جهودها. إذ تنجح الفتاة الشابة في نهاية المطاف، في نيل ما كافحت من أجله، بما يؤهلها لتصبح مديرة لمصنع سخي الإنتاج.
لعل الفيلم ينطوي على مغزى ضمني آخر هو المقاربة الفنية غير الدعائية مع التحديات، التي واجهت المجتمع السوفيتي نفسه للتحول من مجتمع ريفي، إلى مجتمع صناعي صاعد ومتقدم.
بعد عدة أيام أمضيتها في موسكو، لم أعد متأكدة أنها كما قال لنا «منشوف» لا تؤمن بالدموع، بل لعلها باتت كما شاهدت، غارقة فيها حتى الثمالة. وقفت في طابور محدود كان معظمه من كبار السن من الرجال والنساء، للوصول إلى ضريح «لينين» لإلقاء نظرة على جسده المسجي داخله. أما الشاب المرافق لي رفض الدخول معي، ولم يكن له هم سوى استخدام التصريح الذي منح لي للتسوق من مخزن السلع، التابع للجنة المركزية للحزب الحاكم. وكاد أن يفقد صوابه، بعد أن تمكن من شراء سروال جينز، وما فتئ يحلم بمعاودة الزيارة لمواصلة التسوق. لا علاقة لهذا الشاب بماضي دولته، ولا شأن له بحاضرها، ولا حلم له سوى انتظار اليوم الذي يطير فيه إلى الغرب لمواصلة العيش!
انشغال عميق في الأوساط الثقافية والإعلامية والعامة خلال الأسابيع الثلاثة التي أمضيتها في موسكو، بموضوع الديمقراطية التي تبيح حرية السجال وتبتعد عن خدمة نواحي التقدم الاجتماعي. ونزوع واضح للقوميات المتعددة نحو الاستقلال عن المركز. وتحول آليات السوق الذي فتح لها «غورباتشوف» أبواب الدولة السوفيتية من دون رقابة، إلى سوق سوداء لتجارة العملة، والبغاء، وإحماء ثقافة الاستهلاك، وتشكيل مافيا الاحتكار التجاري والمالي. الركود أضحى مخيماً على المنشآت الإنتاجية والصناعية والاقتصادية الكبرى. وتصدر انتهازيون من معدومي الكفاءة إدارة مؤسسات الدولة، فحل فساد عميم كل أرجائها. وصار من الواضح سيادة النزعة الفردية التي تناقض التوجه التضامني للنظم الاشتراكية، وشيوع شعور بالعدمية، يمعن في تشويه تاريخ الدولة السوفيتية، ويحط من إنجازاتها، ومن ثورتها التي احتفظت بالسلطة لنحو سبعين عاماً.
خلاصة القول، رأيت بعيني العوامل التي قادت بعد ذلك بنحو خمس سنوات إلى سقوط الاتحاد السوفيتي في ديسمبر عام 1991، وتمزقه إلى 15 دولة، برغم الاستفتاء الذي أجري في مارس من نفس العام، وصوت فيه 76% من المواطنين بضرورة بقائه موحداً. كانت سياسات «غورباتشوف» هي التي أرست قواعد ذلك السقوط المدوي، ومهدت فيما بعد للثورات الملونة في الدول الخارجة من المعطف السوفيتي، ليجري تكرارها لاحقاً في ثورات الربيع العربي.
استهوى «غورباتشوف» احتضان اليمين الغربي المتطرف - ممثلاً في الرئيس الأمريكي «ريغان» ورئيسة الوزراء البريطانية «تاتشر» - له. وأصبح نجماً يكال له المديح في الإعلام الغربي صباحاً ومساء، وانتهى بمنحه جائزة نوبل للسلام، وإنشائه لمؤسسة تحمل اسمه كان «هنري كيسنجر» من أوائل زوارها.
مع سقوط الاتحاد السوفيتي، افتقد النظام الدولي للتوازن في قراراته، وانفردت الولايات المتحدة بإخضاع العالم لمتطلبات نموها وشروط حركتها واختياراتها، وغزت كلاً من العراق وأفغانستان، وغدت الدول الصغيرة فريسة سهلة للغطرسة الأمريكية، ومورست عليها أقوى الضغوط لتنفيذ برامج التكيف الهيكلي التي فرضها الدائنون وصندوق النقد الدولي. وما الحرب الروسية الأوكرانية سوى نتيجة حتمية واحدة لذلك السقوط، ولغياب نظام دولي متعدد الأطراف يضمن الحد الأدنى من احترام قواعد القانون الدولي.
ودع الغرب «غورباتشوف» بعد موته وداعاً حاراً باعتباره «قديساً»، لكنه وداع مليء بالتضليل. فالرجل الذي غير العالم، والبطل التراجيدي الذي أنهى الحرب الباردة، خسر بلاده.