تتعالى الأصوات التي تبشر بعالم «متعدد الأقطاب» بدلاً من «القطب الواحد» بقيادة الولايات المتحدة، التي سيطرت على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991.
وتأتي تلك الدعوات بشكل رئيسي من الكرملين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتتفق بكين مع موسكو في هذا الطرح، لكن بحذر شديد حيث تهتم الصين أكثر بالعدالة في العلاقات الدولية.
وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام السيادة الوطنية، لكن الدول الغربية، سواء الأعضاء في حلف الناتو أو في الاتحاد الأوروبي وحتى في كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا، لا تتفق مع هذا الطرح في ظل تعهد واضح من الرئيس جو بايدن بأن بلاده سوف تظل على قمة العالم طالما هو في البيت الأبيض.
فما هي المؤشرات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تعتمد عليها موسكو وبكين في الحديث عن عالم متعدد الأقطاب؟ وكيف للولايات المتحدة وحلفائها أن تعرقل أي تحول بعيداً عن القرن الأمريكي كما يحب أن يطلق عليه القوميون الأمريكيون؟
تراجع أمريكي
بشهادة النخبة الأمريكية نفسها، فإن الولايات المتحدة تتراجع في كل المجالات مقارنة بالصعود الصيني في المجال الاقتصادي، والتنافس الحاد مع روسيا في المجال العسكري والأمني، فعلى سبيل المثال، وصل متوسط النمو في الاقتصاد الصيني لنحو 9.3 % منذ اعتراف الولايات المتحدة بالصين عام 1979 واستمر في ذلك حتى 2010.
ورغم أن الأرقام الاقتصادية الحالية الصادرة من البنك الدولي قبل جائحة كورونا عام 2019 قالت إن الناتج القومي الصيني وصل لنحو 13.4 تريليون دولار، والناتج القومي الأمريكي 20.5 تريليون دولار، إلا أن معدل النمو في الاقتصاد الصيني لم يقل خلال السنوات الماضية عن 6.9 % بينما لم يتجاوز النمو في الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الثلاث الأخيرة 3.2 %.
كما أن الصين تتفوق على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في الشراكة الاقتصادية مع مختلف أقاليم العالم، حيث باتت الشريك التجاري الأول لقارة أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة الخليج.
ليس هذا فقط، فالصين تنافس الولايات المتحدة في مجال الغواصات النووية، والصواريخ العابرة للقارات، بل تتفوق عليها في «الأسلحة الانزلاقية» الجديدة، وبدأت في الاقتراب من الولايات المتحدة في الفضاء وحاملات الطائرات بعد أن صنعت الصين وبأيادٍ صينية خالصة حاملة الطائرات الثالثة «فوجيان».
أما عن التنافس الأمريكي الروسي في المجال الجيوسياسي والعسكري فهو في كل مكان تقريباً في العالم، فمن المحيطين الهندي والهادي إلى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة، حيث تتواجد روسيا في كوبا وفنزويلا والدول الاشتراكية في أمريكا اللاتينية.
نظرة أعمق
رغم كل ما يقال عن القوة الاقتصادية للصين والتفوق العسكري والنووي الروسي، فإن الحديث عن التحول من القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب يحتاج إلى «نظرة أعمق» في المعسكر الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة، فما زالت الولايات المتحدة وهي الاقتصاد الأول حليفاً للاتحاد الأوروبي، وهو القوة الاقتصادية الضاربة.
كما أنها الحليف السياسي والعسكري لليابان التي تشكل الاقتصاد الثالث عالمياً، والشريك العسكري والسياسي لألمانيا وهي الاقتصاد الرابع في العالم، والمملكة المتحدة التي باتت الاقتصاد السادس بعد الهند التي تحتل الاقتصاد الخامس، وجميعها أصدقاء وحلفاء للولايات المتحدة التي تقود حلف الناتو الذي يتكون من 32 دولة بعد ضم فنلندا والسويد، وشكلت أخيراً تحالفات «أوكوس» و«كواد».
وتظل الولايات المتحدة وفق أرقام 2021 تنفق على التسليح أكثر مرتين مما تنفقه الصين وروسيا معاً، حيث أنفقت واشنطن في الميزانية الحالية نحو 770 مليار دولار بينما الميزانية العسكرية لبكين 290 مليار دولار، فيما أنفقت موسكو 70 مليار دولار فقط.
من حق كل دولة أن تتنافس، وتبحث عن مكان أفضل وأفضل بين الأمم، لكن تحول التنافس إلى صراع لن يكون في صالح أي من الأطراف بغض النظر على المسميات، سواء كانت القطب الواحد أو تعدد الأقطاب.