سيادة الرئيس هناك مثل أفريقي قديم يقول «مياه إطفاء الحرائق ليست بالضرورة أن تكون نظيفة»، سؤالي هو ما هو الدور الذي لعبته أنجامينا في إخماد الحرائق التي اندلعت في بانجي وضواحيها بين الأنتي بلكا والسليكا ما بين عامي 2012 - 2013؟ أثمة شيء جديد يمكنني أن أسمعه من سيادتكم حول ذلك الملف، خصوصاً إذا افترضنا جدلاً أن أنجامينا هي من ألقي على كاهلها إدارة مهمة ما يحدث في أفريقيا الوسطى في تلك الحقبة وما زالت، وكأنها وصية مزدوجة تقاسمتها أنجامينا مع باريس وإن كانت الأخيرة هي الفاعل الأوحد لكلا الطرفين؟ هذا كان محور سؤالي للرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي أثناء زيارته إحدى العواصم الخليجية بعد سكون المجازر البشرية التي شهدتها أفريقيا الوسطى بأربعة أعوام، ولعل الرئيس الراحل التقط سؤالي بحسه السياسي وأدرك بحنكته الأمنية أن سؤالي ليس مجرد سؤال إعلامي يسعى لتتصدر إجابته صفحات المواقع الإخبارية بمقدار ما هو تجلي يسعى لمعرفة تشاد من لسان رئيسها وكشف سر ثقة الأطراف الدولية الفاعلة في القارة الأفريقية بأنجامينا على مر العصور وإن كانت الحقيقة عكس ما سيتفوهون به ومضاداً لكل ما يؤمن به المواطن التشادي ويبدو ذلك كافياً لعدم إجابة الرئيس على سؤالي السابق.
لم تعرف تشاد في تاريخها المعاصر الاستقرار السياسي بالمعنى الذي يقنعها كدولة قادرة على خلق ذلك الاستقرار وفرضه وإن حالت دونه رؤى دخيلة وجدت في أرض كانت بيئة خصبة لإحكام قبضتها على كل ما يؤهل لأنجامينا الوقوف لإلقاء كلمتها والتعريف بنفسها كما هي وكما يراها أهلها وكما ينبغي أن يكون عليه مستقبلها بعد عقود من الاستقلال الذي بالكاد يقنع الداخل التشادي ناهيك عن مكونه النخبوي والفكري، واكتفت أنجامينا من قبل استقلالها إلى اليوم باستمرارية قبول ارتباط مشهدها السياسي بالتطورات المتلاحقة في جوارها الإقليمي.
بدأت ملامح الصراع بين المكون السياسي التشادي تظهر عندما نجح غابرييل ليزيت في تأسيس الحزب التقدمي التشادي كأول حزب سياسي أفريقي في البلاد، وجاءت أهمية ذلك الحزب لكونه فرعاً من التجمع الديمقراطي الأفريقي الماركسي الذي حاول إيجاد نقطة لقاء تجتمع حولها الرؤى الأفريقية، إلا أن رؤية وزير المستعمرات ماريوس موتيت لمؤتمر باماكو في أربعينيات القرن الماضي بأنه لو نجح في توحيد الأفارقة من الحزبين الشيوعي والاشتراكي للعمل معاً، فهذا يعني تهديداً صريحاً للسياسات الاستعمارية، فما كان منه إلا إقناع القادة الأفارقة بمقاطعة ذلك المؤتمر.
مع استقلال تشاد ووصول فرانسو تمبلباي للسلطة عام 1960 نجح في دمج المعارضة مع الحزب التقدمي التشادي ومنع مؤسسه «غابرييل» من العودة للبلاد باعتباره مهدداً لنظامه، وكبح جماح المعارضة الشمالية التي كانت تنادي بمشاركة شعوب الوسط والشمال في الحكم وعدم اقتصار ذلك على الجنوب حتى تمت الإطاحة بالرئيس وقتله وإعلان فيلكيس مالوم رئيساً للبلاد الذي بالرغم من أنه عزز نفوذ القبائل الجنوبية إلا أنه نجح إلى حد ما في استمالة المعارضة، فعيّن حسين حبري رئيساً للوزراء وسرعان ما نشب الخلاف بين الرئيس ورئيس وزرائه بسبب إصرار الأخير على دمج القوات الشمالية في الجيش الوطني، وبموجب اتفاق لاغوس 1979 تم تشكيل حكومة ائتلافية وأصبح كوكوني رئيساً للبلاد وبسبب تبنيه لسياسة مؤيدة للنظام الليبي نجح «حبري» وبدعم غربي من إسقاط حكومته وأعلن نفسه رئيساً للبلاد 1982، إلا أن باريس وجدت في مستشار الأمن والدفاع إدريس ديبي فرصة للانتقام من حبري وإخراجه من المشهد السياسي بسبب إقدامه على قتل القائد الفرنسي جالويين عام 1975 وتورطه في اختطاف الرهائن الفرنسيين فيما عرفت بقضية كلاوستر، وتم للمخابرات الفرنسية ما أرادت ونجح إدريس ديبي في إزاحة حبري وإعلان نفسه رئيساً عام 1990.
لم يتغير الكثير في الواقع السياسي التشادي في حقبة الرئيس ديبي حتى مقتله 2021 وتولي المجلس العسكري بقياده نجله محمد ديبي الذي يواجه اليوم أهم التحديات التي ستحدد مستقبل الدولة التشادية.
خليجياً، نجحت الدبلوماسية القطرية في إيجاد صيغة توافقية بين المجلس الانتقالي وبعض أطراف المكون السياسي، ومع قرب انتهاء المهلة المحددة لجلسات الحوار الشامل أرى أن المشهد التشادي تكتنفه سيناريوهات عدة ففي حال استمرار رفض جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد «فاكت» الانخراط في الحوار، فإما أن تعمل الأطراف الدولية على دعم التوصل لاتفاق مع المجلس العسكري بقبول إشراك المعارضة في السلطة، وهو سيناريو قد لا تقتنع به المعارضة ليقينها بالتركيبة القبلية للنظام الحاكم، أو إقناع عناصر المجلس الانتقالي بعدم الترشح للرئاسة حفاظاً على بقاء الدولة، وهذا سيناريو وإن كان لا يقبله النظام ولكن قد يوافق عليه في حال وجود خطة لاستمرار النظام من خلال تصدير مكون جديد خارج من رحم الحركة الوطنية للإنقاذ، وهذا لن يخفى على المعارضة بطبيعة الحال التي ستظل تراقب عن كثب أداء النظام وستضاعف قوتها العسكرية التي ستضعها على أهبة الاستعداد، وإما أن يتم ضرب الائتلاف الوطني من الداخل وتغذية التمرد الشمالي والجنوبي تمهيداً لتكرار عملية «بيسون» 1969 - 1972 التي كان من أهم بنودها لموافقة باريس على التدخل وبسط سلطة الدولة هو قبول الدولة التشادية بتغييرات جذرية في سياسة البلاد وتركيبة الجيش الوطني، ويبقى السؤال هنا ما مستقبل منطقة الساحل الأفريقي في حال وقوع السيناريو الأخير؟ وما الثمن الذي يراد لدول الجوار الإقليمي لتشاد أن تدفعه؟ هذا ما سنجيب عنه في مقال مقبل.