عرف العالم أنواعاً كثيرة من التوازن. وعلى الأقل، تتعامل ذاكرتنا مع مصطلحات مثل: «توازن القوة» و«توازن الرعب»، وغيرها.

وهذه لم تكن مجرد مصطلحات هامشية، بل كانت وما زالت تختزل التعبير عن وضع معين تتقابل فيه قوتان أو أكثر في منطقة من المصالح والمطامع.

ومثال ذلك، إن القوى العالمية عاشت «توازن القوة» في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ودخلت، مع اندلاع سباق التسلح وظهور الرؤوس النووية والصواريخ العابرة للقارات، في مرحلة «توازن الرعب».

وقد اتفق رأي علماء وخبراء السياسة، لسبب ما، إن «التوازن»، بأنواعه وأشكاله المتعددة، ضمانة تكفل عدم مبادرة أي طرف من الأقطاب الدولية إلى شن الحروب، أو اللجوء إليها.

وبغض النظر عن صحة هذا الرأي أو عدمه، فإن مفهوم «التوازن»، بحد ذاته جاذب ويبعث على الارتياح. لكن ما طرحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، يقدم صياغة جديدة لهذا المفهوم الجوهري: «توازن المصالح».

وللوهلة الأولى يبدو هذا المفهوم واحداً من اشتقاقات «التوازن» السابقة. غير أن ذلك، لا يبدو صحيحاً، فهو لا يقوم على المواجهة، أو تعطيل المواجهة بمعونة قوة مماثلة ومساوية في أثرها. أي، لا يضع «قوة» مقابل «قوة»، و«رعباً» مقابل «رعب». ولكن يستند إلى المراعاة المتبادلة للمصالح، على أن تكون رشيدة، وقانونية، وشفافة، قابلة للحوكمة، ولا تنتهك حقوق ومصالح أطراف أخرى.

ورغم أن «الرشاد» و«القانون» و«الحوكمة» هي مفاهيم رائجة هذه الأيام، وتجهد دول كبرى في فرضها على دول العالم، إلا أنها لا تعني أن مفهوم «توازن المصالح»، الذي يستند إليها، يمكن أن يحظى بقبول تلقائي من الغرب. وذلك، ببساطة، لأن الغرب الذي يمثل ملياراً من السكان فقط، يضمن مصالحه ويحققها بمشتقات القوة، من رعب وهيمنة ونفوذ عالمي، وليس بوارده أن يتقاسم المصالح مع عالم يضم أزيد من ستة مليارات نسمة.

بما يتعلق بالعالم العربي، تبدو الأمور حالكة قليلاً، للوهلة الأولى؛ إذ لا يشكل شيئاً في سياق معادلة «توازن القوة»، ولا لحضور ضمن معادلة «توازن الرعب». لكنه بالمقابل، بدوله جميعها، يمتلك الثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية، ويتميز بالأهمية الجيوسياسية، وكل الجوانب التي تجعله طرفاً قوياً في معادلة «توازن المصالح».

والدور العربي الفاعل في معادلة «توازن المصالح» يمكن ملاحظته بوضوح من خلال تتبع قرارات مجموعة «أوبك بلس»، التي كشفت عن قيمة الطاقة بوصفها أداة سلمية لتحقيق المصالح، والحفاظ عليها.

ويمكن كذلك الوقوع على المعنى الواقعي والسلمي لمفهوم «توازن المصالح» في العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا، اللتين تحولتا بفضل هذا المفهوم من المواجهة في سوق النفط العالمية، إلى شريكين وراعيين لاستقرار الأسواق والأسعار، دون أن تخسر أي منهما مصالحها المشروعة.

العالم يحتاج إلى «توازن المصالح» الرشيد، والقانوني، والمحوكم. ولا موجب أو مبرر للقبول بمفاهيم التعسف الغاشم، التي تقوم على «توازن القوة» و«توازن الرعب» وما شابههما.

ولعل «توازن المصالح» يمثل فرصة جدية لبناء «توازن عالمي»، تأخذ فيه كل دولة مكانها الواقعي والحقيقي في المنظومة الدولية، بحسب إسهام كل منها في الحضارة الإنسانية، ودورها في الحفاظ على الاستقرار العالمي؛ إذ لا يعقل أن اقتصادات تمد العالم بأسره بالطاقة والغذاء، تعامل باعتبارها اقتصادات ودولاً هامشية، أو حتى دولاً صغيرة، بينما بعض أولئك الذين يعيشون ويأكلون من خيرات أرضها يحتلون موقع الدول الكبرى، ويتصرفون على أنهم أسياد الكون، ويحتكرون لأنفسهم حق النقض «الفيتو».

في الواقع، قد يكون «توازن المصالح» أرضية مناسبة، يمكن على أساسها تعريف النظام الدولي الجديد، المنشود.

مع «القوة» و«الرعب» يكون التوازن معضلة، وسيفاً معلقاً بشعرة فوق رقبة العالم. ومع «توازن المصالح» هناك فرصة لعالم جديد، أكثر هدوءاً ونماءً.