من المؤكد أن لدى الاقتصاديين، لا سيما أولئك الذين يمكن وصفهم بالاستراتيجيين، الكثير من الأحكام والمقولات الجاهزة، المجربة والمختبرة، لتوصيف مختلف المواقف والأوضاع الجارية في العالم اليوم.
ولكن هذا، في الظروف الحالية، قد يكون أخطر مقتل يقع فيه هؤلاء؛ فالأحكام والمقولات الجاهزة، المجربة والمختبرة، تصدق في الظروف العادية، التي تتسم باستقرار نظام مالي ونقدي معين، ويصعب التعويل عليها في مرحلة من الواضح أنها انتقالية، تعبر بالاقتصادات من نظام دولي إلى آخر، وبالتالي، من نظام مالي ونقدي معين، إلى آخر مختلف.
على سبيل المثال، إلى سنوات قليلة ماضية كان الحديث يجري عن نظام مالي ونقدي موحد، مرتبط بالدولار، ومحمي باتفاقيات كبرى مثل اتفاقيات التجارة الحرة وغيرها، بينما اليوم، يجري الحديث على نحو متزايد عن «السيادة الاقتصادية» و«السيادة النقدية».
ويبدو هذا جلياً، من تبدل الحقائق على الأرض؛ فقبل اليوم، كانت أسعار الفائدة، مثلاً، مرتبطة بقرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وتتجه معه ارتفاعاً وانخفاضاً في كل دول العالم تقريبا، إلا أننا بتنا نرى، اليوم، اقتصادات تخرج عن هذه القاعدة، بل وتعاكس توجهات سعر الفائدة الأمريكية.
أي، من الواضح، اليوم، أن «السيادة» على المستوى السياسي فقط، لم تعد ضمانة كافية للاستقرار والحفاظ على معدلات النمو.
بالتوازي مع ذلك، تتلاشى بسرعة كبيرة التصنيفات التقليدية للحجوم والأوزان؛ فإذا كان العالم بعد الحرب العالمية الثانية، قد استقر على تقسيم دوله إلى «عالم أول» و«ثانٍ» و«ثالث»؛ فلدينا اليوم خارطة جديدة من التصنيف.
في هذا التصنيف الجديد للحجوم والأوزان: «قوى عظمى» تتوافر على قوة عسكرية واقتصادية، و«دول كبرى» تتمتع بالقوة الاقتصادية، و«قوى إقليمية» تمتلك مقداراً وازناً من القوة العسكرية والثروات الطبيعية، و«دول إقليمية» تتمتع بثروات طبيعية أو موقع جيوسياسي أو جيواستراتيجي في المعادلات الدولية.
وفي هذا التصنيف، يمكننا أن نرى الكثير من الدول، التي كانت تصنف من دول العالم الثالث، أو النامي، قد أضحت «دولاً إقليمية» أو «قوى إقليمية»، أو حتى «دولاً كبرى».
بعبارة أخرى، إن التحولات الجارية في العالم، تشكل فرصة للعديد من الدول العربية، حيث باتت تبرز وتعظم أهمية ودور «القوى الإقليمية» و«الدول الإقليمية»، في المنظومة العالمية.
في الواقع، نحن نعيش فجر «الدول الإقليمية»، وربما «القوى الإقليمية»، واحتلال موقع في هذا التصنيف الجديد، يتطلب دون شك تبني مفاهيم جديدة، ومقاربات مختلفة، تماماً. لذا، فإن «السيادة» الاقتصادية والنقدية، ليست مجرد مقولات عشوائية، وإنما هي من بعض الجهوزية للمستقبل القريب.
وهذا يعيدنا إلى أن الأحكام والمقولات «الجاهزة»، «المجربة» و«المختبرة»، قد فات زمانها فعلاً؛ ويمكن النظر إلى العقوبات الاقتصادية، «الوصفة» «الجاهزة» و«المجربة» و«المختبرة»، التي فرضتها الدول الغربية على روسيا، جاءت بنتائج عكسية غير متوقعة. وهذا لا يؤشر على قوة روسيا، بقدر ما يعكس حجم التغيرات التي جرت في عالمنا.
هذا على المستوى الاقتصادي..
ليست الأحكام والمقولات الجاهزة، المجربة والمختبرة، قليلة في المجال السياسي. وقد كان خبراء السياسة والمحللون السياسيون الغربيون، الأمريكيون منهم على وجه الخصوص، يمثلون المصدر الأول للأفكار السياسية الجديدة، القادرة على تحديد المسارات المستقبلية. ولكن منذ نحو أكثر من عقد مضى، بدا واضحاً إن الفكر السياسي الغربي قد دخل في أزمة، وبات أسيراً لأحكامه ومقولاته الجاهزة، التي لم تواكب التغيرات العالمية. بل وغرق في الغائية والرغبوية.
ومثال ذلك، أن الفكر السياسي الغربي، ومنذ بدء ظهور أول بوادر الخلاف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مطلع الألفية الجديدة، تحول إلى الجزم والتبشير بأن روسيا في طريقها إلى الانهيار، ولا يزال يكابر إلى اليوم بترديد هذه المقولة، بأوجه مختلفة. بينما الواقع، كان وما زال يسير باتجاه معاكس تماماً لا يغفل عنه، ويفشل في رؤيته، إلا أعمى.
لقد بات الفكر السياسي الغربي يخبط خبط عشواء، ولم يعد قادراً على استقراء المستقبل، واستبصار مساراته، ويعيش حالة إنكار تامة، صعبة. ولم يعد يقدم ما يبرر الثقة بطروحاته.
* كاتب أردني