من المزايا الفريدة التي يتميز بها الإنسان الكلام، فهو من أعظم النعم التي أنعم الله بها عليه، حتى تستقيم حياته، وتنتظم أموره، ويستطيع التفاهم والتواصل مع بني جنسه، والتعبير عن احتياجاته ورغباته، وتبادل الأفكار والآراء مع الآخرين.
وهذه الميزة الفريدة للإنسان هي في الوقت نفسه سلاح ذو حدين، فبالكلمة يبني، وبها يهدم، بها يحقق مرضاة الله تعالى، وينشر علماً، ويعزز قيماً، ويبني حضارة، وبها كذلك يهدم ويدمر، ويجني على نفسه وغيره، ولذلك فإن الإنسان العاقل الحصيف يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، فيسبق تفكيره كلامه، ويعرف كيف يتكلم، ومتى يتكلم، وبماذا يتكلم.
إن الكلمة البناءة تنبع من الوعي الرشيد، حين يستحضر الإنسان أنه مسؤول عما يتكلم، فيختار العبارات المناسبة، والمعاني السديدة، التي تحقق الأهداف بحكمة، ولا تتضمن تأثيرات سلبية على المتكلم أو المحيطين به، وذلك يحتاج من الإنسان بالدرجة الأولى أن يراقب الله تعالى فيما يقول، ويقوي وازعه الإيماني، مستحضراً قوله سبحانه: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، ويتأكد ذلك في مواقف الغضب والانفعال والضغوط والحماس المفرط ونحوها، بحيث يربي الإنسان نفسه فيها على الانضباط والحلم والأناة والتفكير في العواقب، فرب كلمة ينطق بها في لحظة غضب يندم عليها بعد ذلك أشد الندم.
ولذلك جاء التأكيد في الكتاب والسنة على حفظ اللسان، والحث على الكلمة الطيبة والقول الجميل، والتحذير من آفات اللسان التي تضر بالفرد والمجتمع، كالكذب والإشاعة والنميمة والغيبة والسب والشتم والتكفير والقول بلا علم وغير ذلك، لما لها من أضرار وآثار سلبية خاصة وعامة، فكم من أسر تفككت بسبب كلمة قيلت في لحظة غضب، وكم من أوطان ومجتمعات تدمرت بسبب كلمات، أججت وحرضت، ونشرت الإشاعات، وسكبت الوقود على النيران، والواقع اليوم خير دليل على ذلك.
وهذه القيمة وأعني بها الكلمة الطيبة البناءة لا غنى لأحد عنها، ابتداءً من الفرد نفسه صغيراً كان أم كبيراً، وهنا يأتي دور الأسرة في تعويد الأبناء على الكلمة الطيبة، وتعزيز حس المسؤولية لديهم تجاه ما يقولون، وتربيتهم على الصدق والأقوال الفاضلة، فينشؤون عليها منذ صغرهم، ومن المهم في ذلك الاعتدال والاتزان بين غرس الثقة في نفوسهم وتعزيز قدراتهم على الحوار والتفاعل اللفظي مع الآخرين، وبين مراعاة الأدب الرفيع في كلماتهم وعباراتهم، فيكون كلامهم طيباً، وحوارهم جميلاً.
ومن أهم الفئات التي تحتاج إلى تعزيز هذه القيمة كذلك المعلمون والمعلمات، باعتبارهم صناع الجيل وبناة العقول، وعلى أيديهم تتخرج الأجيال، فبالكلمة الطيبة المشجعة يبني المعلم طالباً، ويقوي همته، ويحببه في مادته الدراسية، ويدفعه إلى الاجتهاد والتفوق والانطلاق نحو مستقبله المشرق بكل رغبة وحماس.
وبالكلمة السلبية المنفرة يهدمه، ويبغضه في مادته، ويثبطه، ويدفعه للتفريط في مذاكرته ومواهبه، وكم من معلمين علموني في الصغر مازلنا نتذكرهم بالخير بعد سنين طوال، ولا تزال كلماتهم الجميلة خالدة في نفوسنا.
ومن أهم المجالات التي تتأكد فيها العناية بالكلمة الإيجابية مجال الإعلام والصحافة والأدب والفكر، فالكلمة المكتوبة أو المقروءة التي ينشرها الإعلامي والأديب والمفكر لا يكتبها لنفسه، وإنما يكتبها للناس، فينبغي أن يزنها بمهنية، ويتأكد من صوابها ومدى تأثيرها الإيجابي في المجتمع، ولا يسترسل مع تداعي الأفكار والخواطر والإثارة دون نظر ولا تمحيص.
فيضر أكثر مما ينفع، وكم للإعلام الموجه الذي لا يراعي المهنية من جنايات على المجتمعات، وكذلك الحال مع مواقع التواصل الاجتماعي التي ينبغي أن يحرص فيها كل مشارك على الكلمة البناءة المفيدة.
ومن أهم المجالات كذلك وأخطرها الخطاب الديني ومسائل الإفتاء، والتي لا ينبغي أن يخوض فيها إلا أهلها المختصون، الذين ينضبطون بنصوص الشرع وقواعده المحكمة، ومقتضيات المصالح الراجحة، والالتزام بالنهج الوسطي المعتدل، ويحذرون من الإفراط والتفريط، فلا تميل بهم الأهواء يميناً أو يساراً، ويحرصون على تعزيز القيم الإيجابية، ومن أهمها قيم التلاحم والتكاتف ونشر الوئام في المجتمعات، وإخماد نيران الفتن، ويتصدون للأفكار الدخيلة والأجندات المغرضة، ويقفون مع ولاة أمرهم صفاً واحداً فيما فيه خير وطنهم.
إن الكلمة الطيبة عنوان الرقي والازدهار والاستقرار، وما أعقل الإنسان حينما يسخر هذه الميزة الفريدة والنعمة العظيمة فيما فيه خيره وسعادته في الدنيا والآخرة.
* كاتب إماراتي