في إعلان الاستقلال للولايات المتحدة في 4 يوليو 1776 وثيقة تاريخية ذات مدلول إنساني كبير، تحدى الإعلان لثلاث عشرة مستعمرة في أمريكا الإمبراطورية البريطانية بعبارة «ونحن نرى أن هذه الحقائق بديهية، إن جميع البشر خُلقوا متساوين، وإنهم وُهبوا من خالقهم حقوقاً غير قابلة للتصرُف، وإن من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة». لعلها أشهر عبارة في التاريخ السياسي الأمريكي التي انطلقت منها شرارة الثورة الأمريكية.

بعد انتصار الأمريكيين في حرب الاستقلال، كتب الآباء المؤسسون دستوراً، أصبحت فيه الولايات المتحدة أول دولة تُنهي الاستعمار وأول دولة ديمقراطية في العصر الحديث. وجرت أحداث كثيرة في التاريخ الأمريكي، من حروب داخلية وخارجية. ودخلت البلاد في حرب أهلية كادت تُودي بالجمهورية وتقطع إربها، لكن إرادة الأمريكيين كانت أقوى بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، أهم رئيس أمريكي منذ جورج واشنطن، الأب المؤسس للبلاد.

واليوم تتأوه الولايات المتحدة تحت أعباء سياسية تنثر الشك في مؤسساتها الديمقراطية، التي صمدت لأكثر من قرنين. وصف الرئيس جو بايدن الحالة السياسية بأنها حزينة.

وأن الديمقراطية الأمريكية هشة ويجب حمايتها باستمرار. بيبا نورس أستاذة السياسة في جامعة هارفرد علقت على الأحداث في يناير بأن الديمقراطية الأمريكية في تقهقر، وقبل أن تخطّ نورس مقالتها كان تصنيف الولايات المتحدة في مؤشر الديمقراطية (2020)، الذي تنشره الإيكونيميست إنتليجنس يونت، لا يتناسب مع موقعها وبصفتها داعية للنموذج الديمقراطي.

يقول التقرير: إن الولايات المتحدة «ديمقراطية معطوبة»، وإن مؤشر الديمقراطية في تدنٍ مستمر، فعلى سبيل المثال: كان معدل الديمقراطية في الولايات المتحدة 8.2 في العام 2006، وفي العام 2020 انخفض المؤشر إلى 7.9. ويعزو التقرير السبب إلى تآكُل ثقة الجمهور بالمؤسسات الوطنية، وأن الولايات المتحدة تُظهر كثيراً من مؤشرات العجز الديمقراطي بما يشي بتدهور أكبر في المستقبل.

وقد أوضح استبيان لما يزيد على 1580 فرداً من الجمهوريين والديمقراطيين أن ثلثين منهم يعتقدون أن الديمقراطية الأمريكية على شفا الهاوية. ويقول محلل الاستبيان: إن هناك إجماعاً نادراً بين الأمريكيين على «أن الديمقراطية الأمريكية، العمود الفقري للأمة، في خطر».

ولكن الخطر البنيوي على الديمقراطية يتمثل في انحسار الطبقة الوسطى، التي هي تاريخياً الدعامة الأساسية؛ لأسباب متعددة، منها التقدم التكنولوجي، الذي أغنى أرباب العمل عن توظيف الكثيرين من أبناء هذه الطبقة. يقول فرانسيس فوكو ياما:

إن معدل الدخل لهذه الطبقة ركدت منذ سبعينيات القرن المنصرم، وقد تفاقم الوضع بسبب العولمة، التي أدت إلى هجرة كثير من الوظائف إلى مناطق أخرى من العالم، وأسهمت في تقويض دخول الطبقة الوسطى.

القضية ليست وليدة اليوم، لكنها جادة ومستجدة، تحدث الرئيس الأمريكي في الفاتح من سبتمبر الفائت من قاعة الاستقلال، حيث أعلن الآباء المؤسسون استقلالهم عن بريطانيا، وقال إن هناك مجموعة مرتبطة بالرئيس الأمريكي السابق تحاول أن تهدد الديمقراطية الأمريكية. وأعلن: «على أمريكا أن تختار بين التقدم أو التراجع، أن تبني المستقبل أو تهوس بالماضي».

الديمقراطية الأمريكية الأعرق في العصر الحديث، إلا أنها مشروع مستمر ومتجدد ومتطور. كانت المشاركة السياسية مقصورة على الرجال البيض ذي الأملاك، ثم تطورت لتشمل كافة الذكور من سن معينة.

وبعد نضال تمكنت المرأة الأمريكية من المشاركة السياسية، وبعد حركة الحقوق المدنية في الستينيات من القرن المنصرم، انضم السود إلى ركب المشاركة السياسية، ومن بعدهم الكثير من المهمشين، وبدت أمريكا ماضية في المشروع الليبرالي إلى ما لا نهاية.

ولكن التراجعات الأخيرة مؤشر على محدودية المشروع، كما أن المشروع أصابه عطب.. هل هذا بداية التجديد أم بداية النهاية لمشروع الليبرالية الأمريكية؟

* كاتب وأكاديمي