دخل رجل عيادة طبيب، وهتف مستغيثاً: «أرجوك يا دكتور. انقذني. إنني أموت!».
نظر إليه الطبيب مستغرباً، فقد رأى أمامه رجلاً قوياً، وافر الصحة. ومع ذلك، عاينه باهتمام، فوجده بكامل عافيته. ولكن الرجل أصر على أنه ليس بخير، وسيموت إن لم يتم إنقاذه، فوراً.
وبالفعل، مات بعد سويعات. ولكن ليس لعلة في بدنه، بل بسبب واحدة من تلك الأشياء التي لم يذكرها للطبيب؛ لقد كان جمعٌ من المسلحين يتربصون به لقتله، فلجأ إلى بيته وكان آيلاً للسقوط. إضافة إلى أنه كان قبل ذلك قد استمرأ تجرع السم.
هل يحتضر «المستر دولار»؟
لا. هذا ما يقوله الجميع، فوراً وتلقائياً، بينما هم يفكرون في الأشياء المعتادة، التي يمكن أن تهدد عرش الدولار، وكذلك تلك التي تدعم بقاءه؛ فيجدون الأولى ضعيفة، لا تشكل تهديداً جدياً له. والثانية قوية، تقف إلى جانبه وتدعمه.
هل الأمر كذلك فعلاً..!؟
في الواقع، يبدو هذا الإيمان بقوة الدولار، وقدرته على الصمود رغم المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية الاستراتيجية، نوعاً من الإدمان غير الصحي على مبدأ العملة الصعبة الوحيدة المهيمنة.
ومع ذلك، ثمة أسباب تقليدية معروفة يستند إليها هذا «الإيمان»، منها أن هناك عقبات يمكن أن تحول دون زحزحة الدولار عن عرشه، أولها أن الأسواق نفسها غير جاهزة لذلك؛ فالدولار متجذر في الاقتصاد العالمي، ولا يمكن أن تنافسه أي عملة أخرى، وبالتالي فإن التحول إلى عملة أخرى بديلة، هو «عملية معقدة» ليس من الوارد أن تحدث.
عملياً، يمكن القبول بفكرة أن عملة واحدة لن تستطيع وحدها تهديد عرش الدولار، ولكن الدولار يواجه ما هو أسوأ من ذلك؛ إنه يفقد مساحات مهمة من مجاله الحيوي، فقد فاقمت العقوبات الغربية على روسيا قناعة دول العالم بضرورة الاحتفاظ باحتياطات محلية من الذهب وسلة عملات متنوعة، فيها الدولار مجرد واحد من مجموعها.
وهذا أدى، كما رأينا، إلى صعود متزامن لعدة عملات دفعة واحدة، ومنها عملات غير صديقة، مقابل تحييد الدولار في التبادل التجاري. إلى جانب بروز أنظمة دفع بديلة، من شأنها فعلاً أن تحدث تغييراً زلزالياً. والأهم أن الخبراء يرون أن ما يظهره الدولار حالياً من صلابة، ليس قوة، ولكن لحظة ذروة نهائية.
وبذا، فإن السؤال المركزي هنا، هو: هل الدولار ضرورة، لا يمكن الاستغناء عنها؟ هل الاستغناء عنه يؤدي إلى انهيار النظام المالي العالمي؟
يمكننا أن نرى بوضوح أن الدولار يقوم بدور ووظائف كبيرة ومهمة، ولكنه لا يتفرد بالقدرة على القيام بها. كان لوقت، وحسب، يتفرد بالقدرة على فرض نفسه بالقوة القاهرة.
لقد كان يقال: «الدولار ورقة صنعت بالمدافع، قبل أن تطبع في المطابع». ولكن الحروب اليوم تعبر عن قلة وفائها له، وتظهر إنها لم تعد ملتزمة بدعمه؛ ففي الوقت الذي تدفعه إلى تشغيل مطابعه بأقصى طاقتها، تدعم خصومه التقليديين، وتخلق له منافسين جدداً.
وعملياً، إنها تبرز كل ما يهدد وظائفه الحصرية، مثل: التفرد بالقبول العالمي، والدور التقييمي، ووظيفته الادخارية، وسيطرته على مجالات التمويل والإقراض والتبادل التجاري.
في الواقع، إن مأزق الدولار الواضح أنه بات على نحو متزايد أداة للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة، لا أداة لتسيير الاقتصاد العالمي وقيادته. أزمته في أن دوره الاقتصادي العالمي يتآكل، لصالح وظيفته كأداة سياسية.
وهو من جانب آخر يعاني في بيته الخاص، الذي يعيش تناقضاً مع حلفائه التقليديين، ويغرق بالاقتصاد الوهمي. كما أن سياسات بيته خلقت مصالح حيوية خارج منظومته، وأدت إلى تدني المنفعة العالمية من تفرده على عرش العملات.
إن الدولار وما يثيره دوره المتفرد والأخطبوطي في التحكم بالاقتصاد العالمي من مخاوف محقة، يمكنه أن يكون سلاح دمار شامل، يتهدد العالم بما لا يقل عن السلاح النووي.
والأمر أضحى خطيراً، لأن «المستر دولار» بات يشبه صاحبنا سالف الذكر؛ من جهة تتربص به مجموعة كبيرة من الطموحات الاقتصادية «المسلحة» بالمصالح القوية والأدوات الفتاكة والعملات غير الصديقة والأنظمة البديلة، بينما بيته متداعٍ وغير آمن. إضافة إلى أنه يستمرئ تجرع السم.
وليس مهماً كم سيعيش بعد. المهم أن مستقبله بات موضع شك. وهذه ليست علامة فجر جديد، ولكنها نذر نهاية.