أيام قليلة ويستقبل العالم إشراقة شمس عام جديد، ولم تشأ الرياض أن ينتهي العام دون أن تهدي الشعوب العربية أملاً في عام جديد مختلف، عام يخطو بها خطوتين إلى الأمام بأقدام ثابتة. لقد كانت ثلاثة أيام من متابعة وقائع القمم العربية الثلاث مع الصين كفيلة بمنح الثقة في أننا أمة ليست غاربة، وأنها غادرت الزمن الذي كانت تمضي فيه دون هدف، تتقاذفها أنواء القوى العالمية عكس مصالحها، فترضخ وتصمت، أمة لن تعود، كما قال عنها من يطلقون الكلام ولا يفعلون، ولن يقود اليأس أحد مفكريها لكي يعلن «موت العرب».

الأمير محمد بن سلمان أمسك بطرف الخيط، وهو يشهد بنفسه داخل ملاعب مونديال قطر المبهر لهفة الشعوب العربية إلى التوحد، إلى نصر، إلى أمل مشترك. ألم يزغرد الجزائريون فرحاً بفوز الفريق المغربي رغم القطيعة بين بلديهما؟ مد بن سلمان الخيط من داخل الملاعب إلى خارجها حتى نهايته، وهو يقول في تصريحاته في ختام القمة: «نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم». يقف الأمير الشاب وراء مشروع تنموي وتحديثي غير مسبوق، يجري تنفيذه في السعودية منذ البدايات الأولى للألفية الجديدة، وفقاً لرؤية 2030، والمشروع يقفز خطوات هائلة، ليقدم للعالم المملكة دولة شابة ناهضة في كافة المجالات، تطوي صفحات ماضٍ مأساوي فُرض عليها، وتتحرر من تبعاته الثقيلة الوطأة، بسياسة واقعية يرسي دعائمها بن سلمان، بالتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية والعمرانية والفنية، لكنه مع ذلك يتحدث في القمة باسم العرب جميعاً.

كلمة عربية موحدة في القمم الثلاث مع الصين تقول بين ما تقول إن الشراكة العربية مع ثاني أكبر اقتصاديات العالم ليست ضد أحد، وإن تنوع الشراكات الاستراتيجية مع كل القوى العظمى في العالم مصلحة عربية، وإن العرب لم يعودوا مجبرين على الانحشار في لعبة الاستقطاب الدولي المفروضة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تهاوت بدورها مع سقوط المنظومة الاشتراكية. ومع بروز روسيا والصين بوصفهما من القوى الدولية الكبرى، لم ينتهِ التاريخ كما توقع الغربيون، لكنه بدأ يعيد ترتيب أوضاع العالم بشكل تعددي، لا انفراد فيه لا للولايات المتحدة الأمريكية، ولا لغيرها، كما أن المنطقة العربية لم يعد بها فراغ لكي يملأه أحد، بل فرص لشراكات سياسية واقتصادية تضمن المصالح، وتصون السيادة الوطنية للدول.

وفي الرياض قال العرب إنهم لن يكونوا بعيدين عن المشاركة في إعادة بناء خريطة العالم بما يجعله أكثر إنصافا وعدلاً، وإنهم لا يستبدلون شراكة صينية بأخرى أمريكية، بل سوف يذهبون حيث تمتد مصالحهم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

ذلك أبرز ما أسفرت عنه قمم الرياض، فالمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة هي البوصلة التي سوف تقود علاقات العرب مع كل دول العالم، كما تقود الطرفين العربي والصيني نحو شراكة استراتيجية تخدم أهدافهما المشتركة، فما يجمع الطرفين تاريخٌ حضاري وثقافي ممتد يضرب بجذوره عبر العصور، كما أوضح الرئيس الصيني شي جين بينغ، في خطاب القمة، فحين تلاقت الحضارتان «تعرفت إحداهما على الأخرى عبر طريق الحرير القديم، وتقاسمتا السراء والضراء في النضال من أجل التحرير الوطني، وتمسكتا بالحق والعدل في العالم المتقلب، وبلورتا روح الصداقة الصينية العربية المتمثلة في التضامن والتآزر والمساواة والمنفعة المتبادلة».

الصين دولة كبرى لا ماضي استعمارياً لها، وبات منتجها الصناعي والمدني والعسكري والخدمي والتكنولوجي من التقنيات الحديثة لاستنبات طاقة نظيفة واكتشاف الفضاء، يغزو كل دول العالم، وليست محملة بعقد استعلاء ووصاية على الدول الصغرى، ولا تمنح لنفسها الحق في فرض نموذجها السياسي المتمثل في نظام «الجدارة السياسية» عليها، رغم أنه يحقق نجاحاً، ووضع الديمقراطية الانتخابية في الغرب محلاً للمساءلة والمراجعة، ولا تفرض شروطاً سياسية للتعامل الاقتصادي والتجاري المتنامي معها في المنطقة العربية والقارة الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية، وتدعو للحلول السلمية للنزاعات الدولية، وتحترم قواعد القانون الدولي، وترفض سياسة العقوبات التي تضر الشعوب أكثر من الأنظمة، وتتبنى حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، يقوم على دولة فلسطينية مستقلة على حدود يونيو 1967، تلك هي القيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي جرى تأكيدها في قمم الرياض العربية مع الصين.

وبعد نحو 25 عاماً، تنتهي الصين مع شركائها من إعادة إحياء طريق الحرير الذي بدأته عام 2013، ليربطها بأكبر بنية تحتية في العالم، ويتوقع أن يحوز القسم الأكبر من الاقتصاد العالمي. والعرب هم من أكبر الشركاء في هذا المشروع الكوني.. ألم يقل لكم أحد قادتهم إن العرب قادمون؟!

 

* رئيس تحرير الأهالي المصرية