هناك رأي نطلبه، وآخر يطلبنا، وأروع الآراء تلك التي تأتي في الوقت المناسب، والإنسان بطبيعته لا يحب المتطفلين بآرائهم، ويكره المرء بفطرته التجريح، فهو خرق لسياج الحكمة في إبداء الرأي، ومهما كانت وجاهة الرأي فإن مصيره التجاهل عندما يقدم بأسلوب جارح.

كل شيء عظيم من الأهرامات، وسور الصين العظيم مروراً بأكبر أو أول ناطحة سحاب في نيويورك قد قوبل بالنقد، وأحياناً تبدأ الانتقادات قبل أن تتبلور الفكرة على أرض الواقع، فهناك من يسأل كيف سيتسع المكعب العملاق الجديد في السعودية لعشرين ناطحة سحاب في جوفه بحجم الإمباير استيت في نيويورك؟

ما مصير الطائرات التي سوف تعبر فوق أكبر مربع في التاريخ؟ ولكنها طبيعة الإنسان، إذ يصعب عليه أن يتخيل شيئاً جديداً، ناهيك أن يكون فكرة مدهشة، حيث سيضم هذا المكعب مدينة مغطاة تنقلك إلى عوالم أخرى، وهو مشروع لا شك عندي في أنه سيرى النور قريباً.

الرأي مهم جداً لتجويد أي عمل، وتبدأ لحظة التراجع عندما يصم صاحب العمل أذنيه عن سماع الآراء الوجيهة، فتكلفة الرأي قبل وأثناء أي عمل أقل عبئاً مادياً بمراحل من سماعه بعد اكتمال المشروع، فكم من مشروع أو صفقة لم يلتفت مهندسوها لآراء من حولهم، ثم كانت تكلفة التغيير أكبر بكثير، ولذلك، كان من العقلانية سماع شتى الآراء بتجرد قبل أن ترتفع التكلفة.

ولحسن الحظ هناك آراء تقلل التكلفة وترفع كفاءة الأداء، ومن الآراء ما تبدو وجيهة، لكن تكلفتها كبيرة، ولذلك، تميل بلدان عديدة، مثلاً، إلى ترسية أراض سكنية عديدة على شركات عالمية، تتولى إنشاء البنية التحتية، وتطور المنازل السكنية والمتاجر والجمعيات، وفق نظام كود بناء محدد يحكمه عقد استثماري طويل الأمد يستفيد من المرافق التجارية، وهو رأي وجيه يقلل التكلفة.

وهناك رأي يميل نحو أن تتولى الدولة التكلفة من الألف إلى الياء. إذن نحن بحاجة إلى من يمدنا برأيه في الإنشاءات، والاقتصاد، والتجارة، والتعليم، والسياسة، والعلوم وكل شيء تقريباً.

هناك مدارس عديدة لإبداء الرأي أو إبداء الملاحظات أو ما يسميه الغربيون feedback، وبدأ العرب يستسيغون ترجمتها «بالتغذية الراجعة»، فلغتنا العربية ترحب بالمفردات الجديدة، ومع مرور الوقت يألفها الناس، والتغذية الراجعة في نهاية المطاف نوع من الآراء، لكنها مرتبطة بردود أفعالنا أو آرائنا تجاه أمر محدد، مثل أن يطلب مطعماً أو مصنعاً رأينا تجاه منتج جديد.

وقد حاول الباحث أندرو أتير في بحث عام 2023 تصنيف أنواع تلك الآراء إلى أربعة مكونات رئيسية في مصفوفة مربعة من شقين (طابعين).

فاعتبر أن هناك طابعاً وصفياً descriptive يشمل نوعاً من الإرشاد الدبلوماسي، وهو تقديم رأينا كخيارات متاحة أمام طالبها أقرب إلى فكرة mentoring أو الإرشاد، والآخر أسلوب الإخبار المباشر inform، على طريقة المدربين في أرض الملعب، الذين يوجهون اللاعبين بتوجيهات محددة.

وعلى الجانب الآخر هناك طابع «تقييمي» evaluative يميل نحو تقديم تقييم محدد، مثل أن يقيم أحدنا مدى رضاه عن الخدمة كأن يقيمها بسبع نقاط من أصل عشر نقاط، أي رضاه كان بمقدار 70 في المائة، وهذا النوع أكثر دقة، ويسهل عمل متوسط حسابي له لمدى رضا المشاركين، ويستخدمه المعلمون في شتى مراحلهم التعليمية، وهناك نوع تقييمي آخر وهو «إطلاق الأحكام» judge كأن يقول أحدنا:

مشروعك لا بأس به، ولكن يمكن أن تبذل جهداً أكبر لتحسينه، وهذا أسلوب المسؤول المباشر الذي لا يتردد بالإدلاء برأيه بكل صراحة تجاه سلوكيات المرؤوسين، وهكذا يتطور العاملون من حوله.

خلاصة القول: إننا في حاجة إلى الرأي الصريح أكثر من المجاملات الجوفاء، فكم من متحمس انهار مشروعه التجاري، لأن أحداً لم يخبره بحقيقة سوء خدماته أو منتجاته، وكلما كان المشروع أكبر أو أخطر ازدادت الحاجة إلى مقدار كبير من الصراحة، ولا صراحة من دون هامش كبير من حرية الرأي، ليقوّم المسؤولون اعوجاج توجهاتهم.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة