النظام العالمي الجديد، الذي يتجسد أمام أعيننا يملي علينا أن نصبح أكثر نضجاً. لم يعد هناك مجال لطول بقاء الأنظمة القائمة على دغدغة المشاعر من دون محتوى تقدمه للمواطنين، ولم يعد هناك متسع من الوقت أو الجهد أو الموارد لترقب حدوث الفرج أو التنمية أو الخروج من الأزمات عبر الانتظار. حتى العلاقات بين الدول لم يعد يمكنها الاعتماد فقط على العلاقات الطيبة، والأمنيات اللطيفة، والأواصر القريبة والوثيقة. ستبقى تلك أموراً مهمة، وسيبقى التدخل الإنساني في أوقات الأزمات شأناً حيوياً، يميز الإنسانية عن غيرها من الخلق، ويفرق بين البشر الجديرين بصفة «إنسان»، وغيرهم من غير الجديرين بها.
في النظام العالمي الجديد وجه صريح ومباشر للسياسة. تختلف الدول في ما بينها، بسبب أيديولوجيات سياسية ومصالح اقتصادية، ورؤى في الأولويات، وقد تختلف كذلك بسبب أطماع استعمارية، حتى لو كانت افتراضية عبر غزو ثقافي أو هيمنة فكرية أو غسل أدمغة بقوى ناعمة، تتسلل وتتوسع وتنتشر من دون أسلحة ثقيلة أو حتى خفيفة، لكن الخلافات بين الدول لا تدوم للأبد، وكذلك التناغمات والتوافقات، وإلا لما وجدت أداة سحب السفراء، وتخفيف التمثيل، وقطع العلاقات، فالسحب يعني إمكانية الإعادة، والتخفيف ربما يعاود ثقله، والقطع قابل للرأب. إنها سنة السياسة، وفرض الحياة.
في النظام العالمي الجديد ينجو من يفطن إلى أن زمن «الحنجورية» انتهى، أو على الأقل صار «دقة قديمة» أي قديماً أو رثاً أو بالياً، وسيبقى كذلك لحين إشعار آخر. في زمن الحنجورية كان البقاء للصوت العالي، والدق على أوتار المشاعر، وكلما علا الصراخ، وزاد الدق تدغدغت مشاعر الجموع أكثر. سنفترض أن الحنجورية كانت مثمرة، وأن معتنقيها كانوا حسني النية، وأنها أثمرت نتائج طيبة، لكن الزمن تغير، والأوضاع تبدلت، وما كان يصلح أمس لم يعد صالحاً اليوم. إنها سنة السياسة، وفرض الحياة.
اليوم نتابع مصالحات ومواءمات وتقاربات بين دول فرقتها سلسلة من الخلافات بالأمس القريب، صحيح أن بعض هذه الخلافات كان فادحاً، من حيث الأثر والضرر، لكن تاريخ البشرية يخبرنا أن الخلافات لا تدوم مهما طالت، والنضج المطلوب من الشعوب في ظل النظام العالمي الجاري تحميله حالياً يتطلب وعياً ونضجاً في فهم العلاقات بين الدول.
الدول الأشقاء ستبقى أشقاء، والتاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة المشتركة، وكذلك عنصر التقارب والتفاهم الإنساني ستبقى أموراً مهمة وقائمة، لكن مع الأهمية تأتي كذلك حتمية المصالح المشتركة، التي لا يمكن تحقيقها إلا عبر ما يسمى بـ (Win win situation)، حيث يتحقق لجميع الأطراف مكاسب، حتى وإن اختلف مضمون المكسب لكل طرف.
نظرة سريعة على النظام العالمي الجديد الجاري تشكيله نجد أنه لا يلقي بظلاله على المنطقة العربية، بل جانب محوري مهم يدور، وينطلق من المنطقة العربية.
من المنطقة العربية تنطلق الآن تقاربات لم تطرأ على بال أو خاطر حتى أيام قليلة مضت، كما تدور تفاهمات أراها تصب في صالح الجميع حتى ولو لم يستسغها البعض، لكن من قال إن العلاقات الديبلوماسية والمصالح السياسية يجب أن تلقى إعجاب الجميع؟ لكن على الجميع أن يبدأ في التعامل معها من منطلق عملي بعيداً عن «يوتوبيا» اللاممكن وغير المنطقي.
المنطقي في المنطقة العربية الآن هو أن تتم ترجمة القفزات السياسية والاستراتيجية والدبلوماسية العملية والواقعية الكبيرة إلى كيانات تحمل القدر نفسه من التطور والحداثة، وقادرة على تفعيل الرؤى الحديثة للنظام العربي الجديد فوائد، ومكاسب للمواطنين العرب.
المنطقة العربية- كما يبدو من اسمها- منطقة متشابهة ربما لحد التطابق في العديد من جينات التكوين. هذه الجينات لا تعني عدم وجود اختلافات بين الدول العربية وبعضها البعض، والاختلافات تختلف عن الخلافات، وحتى الخلافات قابلة للحل أو على الأقل التقارب، والجينات المتشابهة تتطلب جهوداً متشابهة، تنهض بالشعوب العربية، التي أثبت التاريخ وبرهنت الجغرافيا على أنه «وقت الجد» العدو واحد، والخطر واحد.
المواطن العربي يتابع ما يحدث على الساحة السياسية والاستراتيجية باهتمام كبير، لكنه أيضاً يحتاج إلى أن يكمل هذا الاهتمام بفهم أوسع، وإدراك معاصر لهذه التغيرات الكبرى، التي يتابعها، لا سيما أن كل ما يجري حولنا من كبيرة أو صغيرة هي في نهاية الأمر تغيرات ستؤثر عليه، وربما تثمر مكاسب وفوائد تصب في مصلحته، والحقيقة أن متابعة المشهد السياسي والدبلوماسي والثقافي للعديد من الدول العربية على مدار أقل من عقد متابعة ممتعة وشائقة ومفيدة. العالم العربي يتغير فعلاً لا قولاً. التوقعات والدراسات الغربية لطالما استشرفت مستقبل المنطقة العربية في ضوء حروب كبرى، وخسائر عظمى، واحتقانات رهيبة. ربما هذه هي المرة الأولى، التي يتم رسم المعالم الحديثة للمنطقة ووضع حجر أساساتها المستقبلية بأيدي قادتها، ومن أجل أهلها.