تعوّد الكُتّاب أن تخضع كتاباتهم للتدقيق اللغوي، كي يتم تفادي الأخطاء النحوية والإملائية التي كثيراً ما يقع بعضهم فيها لضعف في تكوينهم اللغوي أو سهواً. وليس سراً إذا قلنا إن هناك كُتّاباً كباراً ذوو أسماء لامعة، لو نُشرت كتاباتهم دون أن تمر على المدققين اللغويين، الذين ما زالت بعض الصحف تحتفظ بهم، لرأينا فضائح من الوزن الثقيل، نتيجة أخطاء لا يقع فيها طالب في المرحلة الإعدادية، ولن نقول الابتدائية كي لا يقال إنها مبالغة منا.
هذه حقيقة يعرفها العاملون في مجالات الصحافة والأدب والنشر بفروعها المختلفة، قد نتقبلها باعتبار أن هناك كتاباً موهوبين ذوو أساليب جميلة في الكتابة، ولكن تنقصهم مهارة إجادة قواعد اللغة، التي لو بذلوا جهداً قليلاً في تعلمها لاستطاعوا تفادي الأخطاء التي يقعون فيها، وهي أخطاء يرون من وجهة نظرهم أنها لا تعيب الكاتب إذا كان ذا اسم رنان وتأثير كبير في المجتمع، مع أنني أختلف معهم. ولو أتيح لنا أن نطلع على مقالات هؤلاء الكُتّاب قبل مرورها على التدقيق اللغوي، لتضاءلت مساحة الانبهار والإعجاب بهم لدى أولئك الذين يتمتعون بغيرة كبيرة على لغتهم العربية، وحرص كبير على أن يكون ما يكتبون خالياً من الأخطاء قدر الإمكان، ويغمرهم شعور بالخجل عندما يلفت نظرهم بعض الأصدقاء المدققين، الذين ينظرون بعين الدودة الملتصقة بالأرض، لا بعين الصقر المحلق في السماء، إلى بعض الأخطاء الناشئة عن الاستعجال لا الجهل.
وبالإضافة إلى المدققين اللغويين، هناك من يقوم بإعادة تحرير الكتب والأبحاث والخطب الرسمية للسياسيين ورجال الأعمال وغيرهم، وهي مهنة متعارف عليها وشائعة، خاصة لدى دور النشر الكبرى في الغرب، حيث لا يتم نشر كتاب قبل أن يمر على محرر متخصص، يراجعه كثيراً ما يعيد تحريره كي يخرج في صورة تضمن لدار النشر تسويقه وتحقيق أرباح من بيعه، وتضمن لمؤلفه تقبل القراء له وإقبالهم على شرائه.
كل هذا يبدو لي إلى الآن معقولاً ومقبولاً، ولكن لفت نظري قبل أيام خبر يقول إن هناك مدققين من نوع آخر دخلوا عالم الكتابة، لا يهتمون بالأخطاء اللغوية والإملائية التي أشرنا إليها، ولا بأسلوب الكتاب وبنائه. هؤلاء المدققون أطلق عليهم الخبر اسم «مدققو حساسيات»، وهم لا يبحثون عن الأخطاء اللغوية كي يصححوها، ولا يكترثوا بتحسين الأسلوب، بل ينبهون المؤلفين إلى أي صور نمطية، أو إساءات ثقافية لفئات معينة قد تتضمنها نصوصهم.
ولتوضيح صورة هؤلاء المدققين، يقول الخبر إن مهمتهم تنحصر في تفحص شخصيات الكتاب، أو العمل الأدبي، بحيث لا يحتوي على إهانة أو تمييز عنصري لبعض فئات المجتمع، كالبدينين أو أصحاب الأمراض النفسية أو ذوي العاهات على سبيل المثال. «مدققو الحساسيات» هؤلاء أثار عملهم حفيظة بعض الكُتّاب، الذين رأوا في عملهم هذا إفساداً لمتعة الكتابة والقراءة، بينما لقي ترحيب آخرين بدعوى التناغم مع العصر، وتجنباً لعواقب وخيمة تنجم عن ضجة على شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب خطأ أو خطوة ناقصة.
هذا الاختلاف طبيعي ومتوقع، لكنّ السؤال الذي يبرز هو: تُرى لو كان هؤلاء المدققون ظهروا في العصور السابقة، هل كان الأدب العالمي سينتج لنا أعمالاً رائعة مثل «أحدب نوتردام» و«الإخوة كارامازوف» و«كوخ العم توم»... وغيرها من روائع الأدب العالمي القائمة على التنوع الطبيعي الموجود في المجتمعات البشرية؟ فكل هذه الروايات، وغيرها من الأيقونات الخالدة في الأدب العالمي، تحتوي شخصياتها على نماذج بشرية مختلفة، لولاها ما تشكلت عُقد هذه الأعمال وصنعت منها ملاحم أسرت القراء في كل أنحاء الدنيا، واحتلت رؤوس قوائم أكثر الكتب مبيعاً، وجعلت بعضها تُغيّر قوانين وأنظمة كانت سائدة في مجتمعات كبيرة، مثلما فعلت رواية «كوخ العم توم» التي يُجمِع النقاد على أنها أسهمت في تأجيج قضية المطالبة بإلغاء الرقيق في أمريكا في القرن التاسع عشر، وكانت الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم خلال ذلك القرن، والتي لم تكد مؤلفتها، هارييت ستو، تدخل على الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن، الذي يطلق عليه محرر العبيد في أمريكا، سنة 1862 بينما كانت الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب على أشدها، حتى هرع لاستقبالها قائلاً: «إني أرحب بك بوصفك مؤلفة تلك القصة التي أحدثت هذه الحرب العظيمة». حدث هذا رغم انتقاد البعض للرواية بسبب الأوصاف العنصرية التي ظهرت في بعض شخصياتها، والطبيعة السلبية للعم توم في قبول مصيره.
تُرى ماذا نفعل بكل هذه الأعمال العظيمة إذا طبقنا عليها قانون «الحساسيات» هذا؟ هل نحرقها، أم نلقي بها في سلال المهملات، أم نعيد تحريرها ونمسخها مسخاً؟
أترك الجواب لكم.