في شهر رمضان المبارك «الذي أُنزل فيه القرآن»، كثيراً ما أسأل نفسي، لو أنني من غير الناطقين بالعربية، كم حجم الجهد المضاعف الذي كنت سأبذله لمجرد قراءة كتاب الله، ناهيك عن تدبر معانيه وأحكامه؟ وكلما تخيلت نفسي في ذلك الموقف، شكرت ربي. صحيح أننا، العرب نجاهد بكل طاقتنا عند قراءة القرآن سعياً للإتقان وخشية الخطأ، إلا أن اجتهادنا هذا لا يقارن أبداً بحجم الجهد الذي يبذله المسلمون من غير الناطقين بالعربية. لكن الكثيرين منا للأسف لا يدركون حجم النعمة التي حباهم بها المولى، أقصد نعمة اللغة العربية.
واللغة ليست فقط مكوناً جوهرياً من مكونات الهوية، وإنما هي وسيلة التواصل الرئيسية بين البشر. فكلما أتقنت لغة تمكنت من التواصل مع المتحدثين بها. وقدرتك على التعبير عن نفسك، حتى بلغتك الأم، ترتبط بإتقانك لها.
ولا أخفي حجم الأسى الذي يعتريني حين أجد اللغة العربية غريبة بين أهلها. وما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي يكشف حجم المأساة. بل غدت بعض الأسر تتفاخر بأن الأبناء لا يتقنون العربية ولكنهم يتقنون هذه أو تلك من اللغات الأجنبية. وكأن الإنسان لا يمكنه إتقان إلا لغة واحدة فقط، إما لغته أو أي من اللغات الأخرى.
وتصاب تلك الأسر، عادة، بالصدمة حين أؤكد لهم أن أولئك الأبناء في أغلبهم لا يتقنون حتى تلك اللغات الأجنبية. وثقتي مصدرها عملي بالتدريس لسنوات طويلة بجامعة لغة التعليم فيها هي الإنجليزية.
صحيح أن طلابي يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وربما بلكنة أمريكية أو بريطانية، لكن مجرد التحدث بلغة لا يعني بالضرورة إتقانها. فهم متى كتبوا، ارتكبوا أخطاء فادحة في النحو والإملاء. وتكشف كتاباتهم عن لغة فقيرة المفردات. لكن تلك ليست قضيتنا هنا. فتعلم اللغات الأجنبية إضافة مهمة لا بد أن نحرص عليها، لكن ذلك لا يغني مطلقاً عن احترام لغتنا الأم.
وقد يلحظ المتابع لمقالاتي حول النظام السياسي الأمريكي، بحكم التخصص، أنني لا ألجأ لكتابة الكلمات الإنجليزية بمتن المقال إلا فيما ندر. والسبب هو احترامي للغة العربية وإيماني العميق بأنها قادرة على إيصال المعنى حتى لو أتى من ثقافة مغايرة. ولا يوجد عندي ما يسمى بغياب المرادف بالعربية.
فتلك فرية لا أساس لها، باستثناءات نادرة للغاية تتعلق بالثقافة لا باللغة. فاللغة العربية بالغة الثراء، والمرادف لا يكون بالضرورة كلمة مقابل كلمة. وإيجاده يتطلب إلماماً بالثقافتين لا فقط اللغتين. ومن درس الترجمة وعمل بها، مثلي، يدرك ذلك جيداً. إذ يخطئ من يتصور أن المترجم يحتاج فقط لإتقان اللغة الأجنبية التي ينقل منها وإليها.
فأكثر مشكلات الترجمة في بلادنا تتعلق بإتقان اللغة العربية لا اللغات الأجنبية. فلعلك، عزيزي القارئ، قد التقطت، يوماً، كتاباً مترجماً، أعجبك موضوعه وودت قراءته لكنك نحيته جانباً فور قراءة أولى صفحاته، لأنك وجدت نفسك إزاء جمل مصفوفة بالعربية ولكنك بالكاد تفهم معناها. وهنا أسألك، هل تلك مشكلة اللغة الأصلية للكتاب أم أنها تتعلق بإتقان اللغة العربية؟ فلكل لغة منطقها وتراكيبها. فهي ليست مجرد منظومة من المفردات والجمل والتراكيب وإنما هي ثقافة بل ورؤية للعالم والحياة.
واللغة تحمل بين جنباتها الأفكار والقيم الجوهرية للمجتمعات التي نشأت فيها. ونحن، حتى نتواصل مع العالم، نحتاج لدعم ثقافتنا وحضارتنا قبل احتياجنا لترجمة الأعمال التي كتبت بلغات أجنبية لندرسها ونستفيد منها.
واللغة في تقديري كائن حي يحتاج دوماًَ لرعايته وتنميته. وغياب تلك الرعاية مسؤول عن اندثار لغات كثيرة. فاللغة في أبسط تعريفاتها نظام متكامل للتعبير. لذلك، فهي لا تحتوي فقط على الشكل والمحتوى وإنما يشكل استخدامها أحد مكوناتها الجوهرية، لا الفرعية. ومن هنا، فإن الانصراف عن استخدام إحدى اللغات يعني إضعافها. وهو «إضعاف» لا ضعف، لأنه يحدث إذن بفعل فاعل.
لذلك كله، فلا شك عندي في ضرورة تعليم أبنائنا اللغات الأجنبية لمواكبة الحياة. ولكن ذلك لا يعني أبداً إهمال لغتنا الجميلة. فلنا أن نفخر بأننا نملك ناصيتها ونورثها للأجيال الناشئة.