راجت خلال الفترة الأخيرة موضة التنبؤات، خاصة بعد الزلزال الكبير الذي ضرب أجزاء من تركيا وسوريا بداية العام الجاري، وأحدث دماراً هائلاً في البلدين، وخلّف عدداً كبيراً من القتلى والمشردين، لم يخلّفه زلزال آخر خلال السنوات التي تحتفظ بها ذاكرة هذا الجيل والجيل الذي قبله، إذا استثنينا زلزال «تانغشان» في الصين، أكبر زلزال في القرن العشرين، من حيث عدد الضحايا، بين قتلى ومشردين وتدمير، وهو الزلزال الذي ضرب مقاطعة «خبي» الصينية أواخر شهر يوليو 1976 ميلادية، وخلف عدداً من القتلى تراوح بين 240 و255 ألف قتيل، بالإضافة إلى إصابة 164 ألفاً بإصابات خطيرة.
وربما ساعد في رواج موضة التنبؤات هذه، عالم الزلازل الهولندي المثير للجدل، فرانك هوغربيتس، الذي تنبأ بزلزال تركيا وسوريا، قبل ثلاثة أيام من وقوعه فجر يوم الاثنين 6 فبراير الماضي، وظل بعدها يخرج على العالم كل فترة بتنبؤات جديدة، عن زلازل أخرى متوقعة غير محددة المواعيد، بعضها قريب وبعضها الآخر بعيد، مستعيناً بموقع القمر والتقلبات المناخية المحتملة. وقد جاراه في ذلك عدد من ذوي التنبؤات والتوقعات، توزعوا بين عرّافين وعلماء جيولوجيا، وغيرهم من الذين فتح لهم موضوع التنبؤات باباً للشهرة والحضور بشكل مستمر في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، ووسائط التواصل الاجتماعي، وفتح لهم أبواباً للترزق أيضاً.
ولأن الزمن زمن كوارث، والموضة موضة تنبؤات، فقد نشط كثيرون في هذا الميدان، لعل أشهرهم العرّافة اللبنانية ليلى عبد اللطيف، التي أصبحنا لا نكاد نفتح موقعاً إلكترونياً، أو ندخل منصة تواصل اجتماعي، إلا وجدناها تظهر لنا، والتي تنبأت بكوارث كبيرة على المستوى العالمي، فقالت إن عام 2023 سيكون عاماً دموياً، وتحدثت عن نشوب حرب عالمية ثالثة، كأن الحروب التي شهدها العالم على مدى العقود الماضية، لم تكن كافية لإبادة هذا العدد الهائل من البشر الذين أبادتهم، وحذرتنا من وباء قاتل سوف يجتاح العالم، ونحن لم نُشْفَ بعد من آثار وباء فيروس «كورونا» المستجد، البدنيّ منها والنفسيّ والاقتصاديّ وغيرها، وكانت معظم توقعاتها وتوقعات زملائها من العرافين، الذين وجدوا أنفسهم في سباق ماراثوني، كارثية وسلبية، وإن كانت قد حاولت أن تبث نبوءة إيجابية هنا وأخرى هناك، مجاملة وتزلفاً.
وقبل نهاية شهر مارس الماضي، انضم إلى جوقة المتحدثين عن نهاية الحياة على كوكب الأرض، عالم الفلك الجزائري نضال قسوم، فتوقع أن تكون نهاية كوكبنا بسبب ارتفاع درجات الحرارة، التي قال إنها ستزداد أربع أو خمس درجات، خلال بضع مئات الملايين من السنين، وهي ليست فترة طويلة جداً بمقياس الحياة الكوني، ولفت إلى أن الحياة على كوكب الأرض ستنتهي خلال 500 مليون سنة، بعد أن تصبح درجة الحرارة أعلى مما تطيقه حياة الحيوانات والبشر، ولأننا لن نكون على قيد الحياة في الكوكب بعد 500 مليون سنة، فإننا لا نعرف ما الذي سيحدث بالضبط وقتها.
تنبؤات وتوقعات وتكهنات تصب كلها في خانة إغلاق بوابات الأمل ونوافذه وسراديبه وأنفاقه في وجوه البشر، الذين هم بالكاد يحاولون إعادة الحياة إلى مسارها الطبيعي، بعد ثلاث سنوات من معاناة جائحة «كورونا»، تعطلت الحياة خلالها في كل أنحاء الكرة الأرضية، وسُدّت أبواب الرزق أمام الشعوب والدول، وعادت اقتصاديات العالم إلى الوراء خطوات ضوئية، كادت تخنقها، إن لم تكن قد خنقتها فعلاً، وما زالت البشرية تعاني من آثارها حتى اليوم، فهل نحن بحاجة، بعد هذا كله، إلى هذه التنبؤات والتوقعات التي يتحفنا بها العرافون والمتنبئون في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة؟
الجواب الذي يمكن أن يتصوره كل عاقل سويّ بالتأكيد، هو: لا. وإذا كان هذا هو الجواب المنطقي، فلماذا تجري وسائل الإعلام وراء العرافين والمتنبئين، فتستضيفهم ليتحفونا بتنبؤاتهم وتوقعاتهم ونظراتهم المتشائمة المنذرة بالمزيد من الكوارث والأوبئة والأزمات؟ ولماذا تلقى حسابات هؤلاء المتنبئين والعرافين على منصات التواصل الاجتماعي رواجاً كبيراً بين المتابعين، يرفع مكانة أصحابها، ويضاعف دخولهم، كأنهم هم من سيحل مشاكل العالم، ويفك عقده، ويخلصه من اختناقاته وأزماته وحروبه التي تزداد استعاراً، ولا تبدو لها نهاية قريبة؟.
نحن بحاجة إلى تنبؤات، إذا اتفقنا على أنها يمكن أن تصدق أو تصدف، وتوقعات إيجابية تفتح لنا أبواب الأمل ونوافذه، بدلاً من هذه التنبؤات والتوقعات الكارثية السوداء. صحيح أننا نردد دائماً مقولة «كذب المنجمون ولو صدقوا»، التي لم يثبت أنها حديث نبوي شريف، لكننا نعيش زمناً نحتاج فيه إلى من يزرع فينا الأمل، ويبحر بسفننا إلى شواطئ آمنة ومستقرة، لا نخاف فيها من المستقبل ولا نجزع.