في زمن كزمننا هذا يميل أكثرنا إلى العزلة، فمعظم الجلسات للنميمة، المصلحة الشخصية أولاً والكذب سيد الموقف.
كلما تقدمت في العمر، تكتشف أنك لا ترغب في الصدامات ولا المشاحنات والخيبات أو الضغوط من أي نوع. تكتشف أنك لا تبحث إلا عن صحة جيدة، راحة بال وصحبة أشخاص قلوبهم بيضاء. تتأكد أنك تريد أن تكون بصحبة من يدفع بك للأمام وإلى الأعلى، وأن تبتعد عن كل من يريد أن يهوي بك إلى القاع وأن يزجّ بك في وحل الخلافات والأحقاد والمقارنات التي لا أساس لها إلا سواد القلوب. تريد أن تبتعد عن كل من يبث طاقة سلبية أياً كان نوعها. تريد أن تكون مع من يرون أن الحياة جميلة وبصحبتك أجمل.
مع التقدم في العمر تتأكد أنك لا تهتم بكلام الناس عنك، فالقليل فقط من تهتم بهم لكي تفهم عيوبك. أولئك الذين يتمنون لك الخير والسعادة كما يتمنونها لأنفسهم.
إن راحة البال أثمن من أي شيء، وأنك أنت من تقدر ذاتك وتحدد قيمة نفسك وقدرها، تصالح مع نفسك تجد من الراحة الكثير.
يفرحك عصفور تسلل من نافذتك وراح يتجول في بيتك كضيف جميل رغم أنفك، شجرة مثمرة تبدل ثيابها كل سنة ولا تخجل أن تتعرى في الخريف ولا تفقد ثقتها بنفسها حين تصبح أغصانها عيدان حطب، تظنها ماتت وهي ليست بميتة بل تتجدد وتتمدد، تمضي بعض يومك مع دجاجات تهديك بيضات طازجات مهما أكلت منها لن يصيبك الكوليسترول.
أو مع زيتونات لا شرقيات ولا غربيات، مخضرات طول السنة. تقدم لك زيتاً صحياً لا مهدرجاً ولا مبرمجاً. وردات لا تحتاج إلا الماء يفوق عطرها أرقى العطور وأوراقها أرق من فستان سهرة في ليلة عرس.
هذا العالم يتغير ليس كل فصل بل كل ساعة. فالذي تنام عليه لا تستيقظ عليه. تصاب بالدوار وعمى المواقف وتنسى ما كان بالأمس فمن كان رئيساً بالأمس تجده اليوم متهماً. تحالفات تتفكك. حروب تشتعل وحروب تنتهي.
كلما تقدم بك العمر تميل تدريجياً إلى فعل الخير، تشعر أن السعادة هي أن تمنح السعادة لمن حولك، افعل كما فعل هذا «اللص الشريف» مع الشاعر والكاتب الباكستاني أديب ميرزا المتوفى عام 1999 الذي كتب في كتابه «المصباح» يقول: ذهبت إلى دلهي في الستينات للعمل، وفي أحد الأيام نزلت من الحافلة فتشت جيوبي، تفاجأت بأن أحدهم قد سرقني، وما كان في جيبي حين سرقت سوى تسع روبيات، ورسالة نصها: «أمي الحنون، فصلت من عملي، لا أستطيع أن أرسل إليك هذا الشهر المبلغ المعتاد، وكنت قد وضعت رسالتي هذه في جيبي منذ ثلاثة أيام على أمل أن أرسلها في وقت لاحق بما يتوفر من روبيات، وبالرغم من أن الروبيات التسع لا تساوي شيئاً، لكن الذي فصل من عمله، وسرق ماله تساوي هذه الروبيات في نظره 9000 روبية».
مضت أيام، وصلتني رسالة من أمي، توجست خوفاً، وقلت في نفسي: لا بد أنها طلبت المبلغ الذي اعتدت إرساله إليها، لكنني عندما قرأت الرسالة احترت كونها تحمل شكرها ودعواتها لي قائلة: «وصلتني منك 50 روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائع يا بني، ترسل لي المبلغ في وقته، ولا تتأخر بتاتاً رغم أنهم فصلوك من عملك داعية لك بالتوفيق وسعة الرزق».
عشت في حيرة لأيام، من يا ترى أرسل هذا المبلغ إلى أمي؟ بعد أيام وصلتني رسالة أخرى بخط يد بالكاد يقرأ، كتب فيها صاحبها:
«حصلت على عنوانك من ظرف الرسالة وقد أضفت إلى روبياتك التسع، إحدى وأربعين روبية كنت قد جمعتها سابقاً وأرسلتها حوالة مالية إلى أمك حسب عنوان رسالتك، وبصراحة فإنني فكرت في أمي وأمك، فقلت في نفسي: لماذا تبيت أمك أيامها طاوية على الجوع وأتحمل ذنبك وذنبها؟
تحياتي لك، أنا الذي سرقك في الحافلة.. فسامحني».