حدث هذا قبل 24 عاماً تقريباً، عام 1999 على وجه التحديد، وكنت وقتها قد غادرت إدارة تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي، بعد أكثر من 18 عاماً قضيتها فيه، والتحقت بمؤسسة «البيان» للصحافة والطباعة والنشر مديراً لمركز التدريب الإعلامي، فحجزت لي إدارة التحرير مكاناً في «استراحة البيان» اليومية، التي كانت تحتل قلب الصفحة الأخيرة من الجريدة، ويتناوب على كتابتها عدد من كبار الكتاب العرب، على غرار «يوميات الأخبار» التي كانت تحتل المكان نفسه من جريدة «أخبار اليوم» المصرية الشهيرة، ويتناوب على كتابتها كبار الكتاب المصريين.

كنا في الأسبوع الأول من شهر رمضان المبارك سنة 1420 هجرية، في اليوم الرابع منه على وجه التحديد، وكان عنوان مقالي في «الاستراحة» يومها هو «خيمة وشيشة وشاشة».

كان المقال يتناول أجواء الشهر الكريم، وبعض الممارسات والمظاهر المصاحبة له بطابع نقدي من ذلك النوع الذي يحبه الكُتّاب ويعجب القراء، وكان مما تناوله المقال السباق المحموم بين محطات التلفزيون للفوز بالمشاهدين واستقطابهم، مع الإشارة إلى بعض البرامج التي تتنافس القنوات التلفزيونية على الفوز بها في ذلك الوقت، ومنها برامج المنوعات والمسابقات، وعلى وجه الخصوص برنامج «فوازير رمضان» الغنائي الشهير، الذي كان ينتجه التلفزيون المصري، والذي كان ينفرد بإخراجه منذ بداية ظهوره المخرج الراحل فهمي عبدالحميد، وقد تعاقب على تقديمه عدد من الفنانات الشهيرات، منهن نيللي وشيريهان، وأنهيت المقال بالتساؤل عن غياب الأعمال الدرامية التاريخية الكبيرة التي قدمت لنا تاريخنا العظيم، وسِيَر قادتنا وعلمائنا وأدبائنا وشعرائنا الأفذاذ في قالب راق، فأقبل الناس على مشاهدتها، ولم ينفروا منها كما يدّعي أو يتصور البعض.

هل تغير الزمان بعد ما يقرب من ربع قرن على المقال؟ ربما، وإن كان بشكل مختلف يناسب تغير الجيل وتطور تقنيات العصر، فقد كانت «الكروما» هي قمة التقنية في عالم التلفزيون وقتها، حيث لم يكن «الهولوغرام» وتقنيات الذكاء الاصطناعي قد ظهرت بعد، وكنا عندما نزور زملاءنا في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري آنذاك للاتفاق معهم على شراء المسلسلات والبرامج التي سنعرضها في قنواتنا خلال شهر رمضان المبارك، نحرص على زيارة الاستوديو الذي كان يصور فيه الحاج فهمي، كما كانوا ينادونه هناك، للسلام عليه أولاً، ثم لحضور جزء من تسجيل الفوازير التي كان تصويرها أصعب من تصوير المسلسلات الدرامية، رغم أن حلقاتها قصيرة لا تتعدى مدة الواحدة منها 25 دقيقة، وكان غالباً ما يبدأ الشهر الكريم وتصوير الحلقات لم يكتمل بعد، فيقوم الزملاء في القطاع الاقتصادي باتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بشحنها لنا جواً، ونبقى كل يوم ننتظر مكالمة الزملاء في القطاع، الذين كانوا يزودوننا برقم الشحنة الجوية، حيث يبقى مندوب قسم الشحن والتخليص مرابطاً في المطار حتى يستلم الشريط ويذهب به مباشرة إلى مبنى التلفزيون كي لا نتأخر عن موعد عرض الحلقة، وقد نضطر إلى استلامها عبر الأقمار الصناعية إذا لم يصل الشريط قبل موعد العرض اليومي، كي نبقى مواكبين لموعد عرضها في التلفزيون المصري.

ذكريات ربما تبدو لجيل التلفزيون الحالي نوعاً من العودة إلى عصر ما قبل اختراع العجلة، لكنها جزء من تاريخ التلفزيون في الإمارات الذي لم يُكتب بشكل مفصل ودقيق حتى الآن، وهو تاريخ لا يمكن طمسه أو تجاهله وسط موجة الحداثة التي تكتسح كل شيء اليوم.

ومع هذا فإن الغرض من استعادة مقال «الاستراحة» المذكور ليس العودة إلى الماضي، أو استعادة ذكرياته، وإنما استعادة ما حدث بعد نشر المقال وقتها، فقد اتصل بي أحد الأصدقاء، وكان وقتها يتولى إدارة واحدة من محطات التلفزيون الرئيسية في الدولة، وقال لي ضاحكاً، كأني به أراد أن يذكّرني بأنني كنت ذات يوم داخلاً في منظومة هذه المجموعة المتنافسة: تنتقدنا الآن، وأنت الذي علمتنا ذلك؟!

والحق أقول إنه كان سؤالاً في محله، يطرح مسألة مهمة، هي أننا عندما نكون داخل الدائرة لا نرى ما يحدث فيها، لكننا عندما نصبح خارجها تنكشف لنا الأمور بشكل مختلف، ويغدو الانتقاد مسألة سهلة طالما أننا خارج إطار المسؤولية، فنحن عندما نكون مسؤولين تبدو لنا الأشياء حولنا في منتهى الكمال، ويغدو كل من يوجه لنا نقداً حاسداً أو حاقداً أو غيوراً، لكننا عندما لا نكون مسؤولين يبدو لنا كل مسؤول مخطئاً.

ثمة من يدرك هذه الحقيقة قبل فوات الأوان، فيعمد إلى تغيير المسار قبل تبدل الأحوال، وثمة من يظل سادراً في الوهم والخيال. إنها ليست محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكنها مجرد وقفة للتأمل، لا أقل ولا أكثر.