قبل عام وشهرين، دخل العالم بنظاميه السياسي والاقتصادي الاختبار الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بتداعياتها، من حرب الكوريتين والحرب الباردة بين قطبيه الرئيسيين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وسباق التسلح النووي، بما فيها أزمة خليج الخنازير الكوبية، والمقصود بالطبع بهذا الاختبار هو الحرب الروسية – الأوكرانية. وخلال فترة هذا الصراع، الذي تجمع كل تقديرات السياسيين سواء المنخرطين فيه أو غير المنخرطين، ورؤى المحللين والخبراء، على أنه لا نهاية قريبة له، بدا واضحاً أن هناك ظواهر سياسية واقتصادية مهمة قد ترافقت معه ونتجت عنه، لها تأثيرات مباشرة على كتل العالم وتجمعاته السياسية والاقتصادية التي تشكلت أو اتسمت بخصائص معينة خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
والمجمع عليه في تقديرات السياسيين وتحليلات الخبراء هو أن عالماً متعدد الأقطاب سياسياً واقتصادياً في طور التشكل. والمجمع عليه أيضاً هو أن المشهد الأولي للعالم الجديد الآخذ في التشكل، يشير إلى تبلور تكتلين كبيرين في مواجهة بعضهما البعض: التكتل الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ومعها حليفاتها الأوروبيات وعدد قليل من دول العالم الأخرى، وتكتل آخر تبرز فيه روسياً سياسياً وعسكرياً وتتقدمه الصين اقتصادياً وتقترب منه بهدوء ووضوح مجموعة أخرى من دول العالم الأخرى المهمة من أبرزها الهند.
ويبدو واضحاً أن هذا التطور الرئيسي في المشهد العالمي بكل تفاصيله السياسية والاقتصادية المتتابعة يومياً، قد رافقه على صعيد مكوناته في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، تغيرات وتطورات مركزية إزاء ذلك المشهد العام الجديد الآخذ في التشكل. ففي خلال عام الحرب الروسية – الأوكرانية، وقبلها بوقت قليل فيما يخص بعض التطورات، وعلى خلاف ما شهدته المنطقتان خلال العقد الأخير من تشرذم وصراعات بينية وصل بعضها إلى الحروب الدموية، راحت كل الدول والأطراف الرئيسية في المنطقتين، باستثناء واحدة، تتخذ قرارات وتنفذ سياسات وتحركات، لم يكن أحد من السياسيين أو الخبراء يتصورها قبل الحرب الروسية – الأوكرانية.
والملاحظة المؤكدة الصحة والظاهرة بجلاء هي أن كل هذه القرارات والسياسات تتجه حثيثاً نحو إنهاء الصراعات السياسية والمواجهات المسلحة الدائرة بين عدة دول في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. فعلى صعيد علاقات الدول العربية بدولتي الإقليم غير العربيتين، تركيا وإيران، جرت مصالحات وتفاهمات جوهرية بين تركيا والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وكانت آخر مشاهدها مع مصر. وفتحت السعودية بوساطة صينية باباً واسعاً وغير مسبوق لعودة العلاقات المتوترة منذ عقود مع إيران، إلى الحالة الطبيعية لدولتين جارتين.
وكان مشهد الالتئام شديد الوضوح بداخل العالم العربي. فالمصالحة بين أطراف الحرب الدائرة منذ سنوات في اليمن الشقيق، برعاية ومشاركة الدول العربية الرئيسية ذات الصلة بهذا الصراع، تسير بسرعة ملحوظة وتعطي إشارات إيجابية متتابعة على قرب التوصل لحلول وسطى مقبولة من كل الأطراف للأزمة اليمنية. وبصورة علنية ومتصاعدة، تجري عربياً تسوية الملفات الرئيسية التي عزلت سوريا عن إطارها العربي من أكثر من عشر سنوات، وتكفي الإشارة هنا لتحركات الإمارات والسعودية وتونس المهمة مؤخراً نحو عودة سورياً لحضنها العربي الطبيعي.
وتبقى أخيراً الأزمة اللبيبة، والتي انعكست عليها مباشرة خلال الفترة الأخيرة التقاربات والتفاهمات العربية – الإقليمية، والعربية – العربية، لتضفي على الأوضاع الليبية هدوءاً نسبياً وتوقفاً للتصعيد المسلح، في انتظار التوصل لحلول وسطى سلمية نهائية لها.
إن اتجاه دول العالم العربي وإقليم الشرق الأوسط نحو مزيد من التئام الصراعات والجراح، وفتح الأبواب نحو التعاون المشترك ثنائياً أو جماعياً، يأتي في جزء كبير منه كرد فعل إيجابي من هذه الدول تجاه تغيرات المشهد العالمي الكبرى وسير العالم نحو تشكل جديد لنظاميه السياسي والاقتصادي، بحيث تكون المنطقتان بدولهما جزءاً من هذا التشكل بما يحقق المصالح الرئيسية لشعوبهما.