ستهدأ الأوضاع في السودان، إن لم يكن غداً فالعام المقبل أو بعد المقبل. نأمل أن يحل الهدوء سريعاً، فالصراع، أي صراع، خراب وموت وفرقة وفتنة وجر البلاد إلى تأخر وتقهقر وشد العباد نحو دوائر مفرغة من الكراهية والغضب والقلق والضغط النفسي المزمن، لكن العنف مصيره الهدوء، والحرب مآلها الانتهاء، والأذكياء وحدهم من يتعلمون ويفقهون ويستخلصون الحكمة ويأخذون العظة من الدرس القاسي.
الدرس القاسي في السودان توليفة من الدروس، لكن في خضم الأزمة، وبينما الكارثة تدور رحاها، وأصوات القذائف وآثار الدمار تحيط بالضحايا، ينشغل الجميع بالمتابعة والإغراق في تفاصيل الخبر العاجل الذي يركض أسفل الشاشة. عداد القتلى، وإحصاء المصابين، وسرد للأزمات المتفاقمة على الهامش: شح غذاء، تلوث مياه شرب، انقطاع كهرباء، خروج مستشفيات من نطاق الخدمة، حرمان تلاميذ من المدارس، حبس طلاب داخل جامعتهم ودفن زميلهم الذي لقي حتفه في حرم الجامعة، مياه شرب نفدت فتوجه السكان للشرب من ماء النيل، أجساد القتلى ملقاة في الشوارع، هدنة يتم خرقها من الجانبين المتقاتلين بعد دقائق واستغراق تام في الأحداث الدامية بينما تحدث.
لكن بينما الأحداث الدامية تحدث، تترسخ عقيدة العنف أكثر، وتتجذر فكرة حل الخلاف بالسلاح والقساوة والبأس أكثر، ويبدأ السكان تدريجياً في اعتياد القتال الدائر في الشارع، وتصبح طبول الحرب نغمة إيقاع في خلفية المشهد وليس في صدارته، ويتعايش المدنيون رويداً رويداً مع «لايف ستايل» المصائب والكوارث، ويصبح توقع الموت وانتظار اللحظة الفارقة التي تتشتت فيها الأسر ويتشرد فيها الأطفال ويفقد فيها البيت الآمن فرداً أو اثنين أو ثلاثة من أبنائه طقساً يومياً، وتفاصيل الحياة اليومية للحروب والصراعات كثيرة مرعبة.
ويكمن رعبها لا في حدوثها، بل في اعتيادها. وفي اعتياد العنف والقسوة والخطر الدائم الذي يلوح في الأفق بشاعة وفظاعة وضرب لقواعد الإنسانية في مقتل. وللأسف الشديد، فإن هذا الضرب، وذلك الاعتياد (أو شبح الاعتياد)، وهذه القسوة تتواتر في منطقتنا العربية بشكل مقلق ومفزع، وهذا التواتر لن يوقفه الإغراق في متابعة تفاصيل «الخبر العاجل» رغم أهميته، أو تكسر دائرته إرسال المساعدات الإنسانية لمساعدة الباقين على قيد الحياة لمزيد من البقاء لحين إشعار آخر، أو تقيه شرور التكرار التوصل لاتفاق هدنة أو مصالحة تقبّل فيها الأطراف المتنازعة رؤوس بعضها البعض. هذا التواتر قد يؤجل أو يُجمّد أو يؤخر الصراع، لكنه لا يعالج جذوره أو يقيه بمناعة فولاذية. الوقاية الرئيسية تكمن في علاج الجذور، وهذا أمر عسير ومكلف ومجهد، لكنه يستحق.
قد نفهم جذور الخلاف في السودان «إلى حد ما»، وقد تلقي الرسوم البيانية والخرائط التفاعلية بصيص فهم على ما يجري في اليمن أو ما حدث في ليبيا أو ما ألمّ بلبنان أو ما ضرب العراق أو أصاب الصومال وفلسطين، لكنها أبداً لن تحل جذور قنبلة الصراع وقذائفه وألغامه التي تنتظر فرصة للانطلاق طالما هي موجودة ولم يتم استئصالها.
استئصال أسباب الصراع واحتمالاته عمل شاق ومضنٍ، لكن النتائج، كما يخبرنا التاريخ والحاضر والحجة والبرهان، مذهلة وتستحق. الأكاديميون والمراكز البحثية يقولون إن حل النزاعات يحدث بالتفاوض والوساطة والتحكيم والتقاضي.
ميثاق الأمم المتحدة الذي تم سنّه قبل 78 عاماً كان يهدف إلى إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب، وذلك بمنع الأسباب التي تؤدي إلى نشوبها واتباع السبل والسياسات الوقائية بغرض استدامة الحماية، لكن هذا لم يحدث، على الأقل في العديد من دول منطقتنا العربية.
ما تكابده دول عدة في منطقتنا أعراض، وليس أسباباً، مرة يقولون إن السبب صراع ديني، وأخرى إن المحرك منافسة على القوة، وثالثة إن الهدف استحواذ على الموارد، ولائحة القيل والقال الراسخة طويلة.
عبارة «إعادة الإعمار» ظاهرها إيجابي، والمؤكد أن نواياها حسنة، لكن إعادة إعمار المباني والبنى التحتية والمدارس والمستشفيات، والتدخلات العلاجية لإصلاح النفوس المنهكة والعليلة جميعها ليس شهادة ضمان أو كتالوج تعافٍ يؤكدان عدم تجدد الصراع.
طالما بقيت البشرية، سيبقى هامش محتمل من الخلاف والاختلاف، إنها سنة البشرية، لكن محاولة فئة من البشرية طيلة الوقت القضاء على فئة أخرى ليس سنة، بل علة ومرض.
المظالم المزمنة وعدم المساواة والفجوات الاجتماعية والهوات الاقتصادية والدق على أوتار دينية تدغدغ المشاعر وتصبغ القتال بصبغة سامية راقية جميعها تضمن إبقاء فتيل الصراعات قيد الاشتعال.
يكمن الحل الوحيد أمس واليوم وغداً في التنمية المستدامة الفعلية، فالصراع والفقر شديدا التشابك، والصراع والظلم وثيقا الصلة، والصراع واستغلال الدين (ولنا في جماعة الإخوان عبرة) أعز أصدقاء.