ربما مثل كثيرين غيري، توثقت علاقتي بالأدب السوداني، من خلال رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للأديب والكاتب والإعلامي السوداني الشهير الطيب صالح، عليه رحمة الله، في هذه الرواية تعرفت إلى المجتمع الريفي السوداني، من خلال بطل الرواية مصطفى سعيد، العائد لقريته في السودان، بعد رحلة إلى الشمال الأوروبي، درس خلالها وعمل محاضراً في إحدى الجامعات البريطانية، وتبنى قيم المجتمع البريطاني، وتزوج من امرأة بريطانية، ثم عاد بعدها إلى بلاده، حيث التقى هناك بصورة مفاجئة براوي القصة، الذي عاش أيضاً في بريطانيا، لتتوزع القصة بين الراوي وبطلها، وهي قصة تتناول مسألة العلاقة بين الشرق والغرب، ولقاء الثقافات وتفاعلها، وصورة كل من الغربي والشرقي في عيون الآخر.

والحق أن الرواية، التي اختيرت لتكون واحدة من أفضل مئة رواية عربية كُتبت في القرن العشرين، وكانت موضوعاً للكثير من الدراسات والرسائل الجامعية، الحق أنها بهرتني عندما قرأتها، بل دفعتني إلى تتبع أعمال الطيب صالح الأخرى، فانتقلت منها إلى قراءة رواية «عرس الزين»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد الصديق، عليه رحمة الله، لكنني في قراءتي لرواية «عرس الزين» واجهتني مشكلة الحوار المكتوب باللهجة السودانية المحلية، وليس بالفصحى كما هو الحال في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، ومع هذا فقد كانت فرصة للتعرف على اللهجة السودانية مكتوبة، وليست منطوقة كما نسمعها من الأخوة السودانيين، الذين يتكلم بعضهم بسرعة فائقة تجعل ملاحقة وفهم مفردات اللهجة صعبة إلى حد ما في بعض الأحيان، وهي لهجة جميلة لها جرس وإيقاع مميز، ولها مفردات مختلفة عن اللهجات العربية الأخرى، وقد كانت قراءتي لرواية «عرس الزين» ممتعة هي الأخرى، فقد كانت الرواية تصور حياة القرى السودانية الواقعة في شمال البلاد، التي تجمع بين التراث الإسلامي والتراث السوداني ذي الطبيعة الخاصة والمختلفة عن تراث الدول العربية والأفريقية الأخرى.

كان هذا على مستوى الرواية، أما على مستوى الشعر فقد كانت قصيدة «أغداً ألقاك» للشاعر السوداني الهادي آدم، التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم عام 1971 من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب هي مدخلي ومدخل الكثيرين غيري إلى الشعر السوداني، الذي أثرى الذائقة الشعرية العربية بالكثير من القصائد، أبدعها شعراء سودانيون كثر، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، محمد الفيتوري، وإدريس محمد جماع، والتجاني حاج موسى، ومحمد أحمد محجوب، وغيرهم ممن يضيق المجال عن ذكر أسمائهم.

أما على صعيد العلاقات الإمارتية السودانية، فقد شكلت زيارة الرئيس السوداني الأسبق جعفر محمد نميري لدولة الإمارات في أوائل السبعينيات من القرن الماضي نقطة تحول في العلاقات الإماراتية- السودانية، حيث وفد إلى الإمارات عدد من الأخوة السودانيين، الذين أسهموا في نهضة الدولة منذ بدايات تأسيسها، كان منهم مهندسون ومديرو بلديات وقضاة ومحامون وأطباء وإعلاميون وعسكريون وذوو تخصصات مختلفة، قاموا بأداء أدوار بارزة في تأسيس النهضة، وما زال كثير من الأخوة السودانيين يعملون في الإمارات، التي يجدون فيها بيتهم الثاني، ووطناً يسكن وجدانهم، مثلما يسكن السودان وجدان كل العرب، وعلى وجه الخصوص أهل الإمارات، الذين يألمون لما يحدث في السودان هذه الأيام.

ليس كثيراً على السودان والسودانيين أن نكتب عنهم المرة تلو الأخرى، ونحن نتابع ما يجري على أرض السودان الحبيب من أحداث مؤلمة، حتى وإن خفت حدة الاقتتال فيه إلى حد ما، أو دخل المتقاتلون فيه هدنة هشة في أثر هدنة هشة لم تصمد كثيراً، ذلك أن أكثر ما يحز في نفوسنا هو أن نشاهد، بعد أكثر من أسبوعين من الاقتتال، قوافل السودانيين المهاجرين من مدنهم إلى مدن أخرى أكثر أمناً وأقل اشتعالاً، أو هاربين من المعارك إلى دول مجاورة للسودان، كان السودان ذات يوم هو المأوى لشعوبها، فنحن لا نريد أن ينضم الشعب السوداني إلى قائمة الشعوب العربية اللاجئة، التي أخذت دائرتها تتسع وتكبر عاماً بعد عام، وهي قائمة بدأت، وفق ذاكرة الأجيال القريبة، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي بلاجئي النكبة الفلسطينية، قبل أن ينضم إليهم لاجئو النكبات اللبنانية، والعراقية، والسورية، والليبية، واليمنية، حتى غدونا نمقت كلمة «لجوء» لكثرة ما حملت من المآسي والكوارث والشتات والغربة والفقد ودمار الأوطان وضياع الحاضر وضبابية المستقبل.

عليك الله يا زول، إلى أي طرف من أطراف الصراع انتميت، أن تعيد إلى أهل السودان أمنهم واستقرارهم، وأن تحفظ الطيبة التي تنبع من قلوبهم وتظهر على وجوههم، فهي أجمل وأثمن وأغلى ما ملكوا عبر تاريخهم.