في الوقت الذي تحاول فيه الصين جاهدة وبنفَس طويل إبعاد دول الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو عن الولايات المتحدة وسياساتها المناوئة للصين، وفي أعقاب النتائج المشجعة على هذا الصعيد لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبكين أخيراً، التي تخللتها تصريحاته الداعية لأوروبا إلى انتهاج سياسة مستقلة عن الأمريكيين والعمل معاً في مجال الدفاع للحد من الاعتماد على واشنطن، وهو ما فسر على أنه اختراق صيني ناجح. في هذا الوقت حدث ما وضع الصين فجأة في فوهة المدافع الأوروبية.



والإشارة هنا إلى تصريح أطلقه السفير الصيني لدى فرنسا وموناكو «لو شاي» في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي. فماذا قال السفير ذو السنوات التسع والخمسين، والذي يشغل منصبه منذ يوليو 2019، وكان قبلها سفيراً في كندا وفي كل من سيراليون وغينيا، وقبل ذلك نائباً لعمدة مدينة ووهان التي انطلقت منها جائحة كورونا؟



السفير شاي، الذي اكتسب شهرة بسبب تكرر أخطائه وتصريحاته المستفزة والمتجاوزة للأعراف الدبلوماسية، والذي يصفه المراقبون بالذئب المحارب المعبر عن توجهات صقور السياسة الصينية، لم يتردد قيد أنملة في التشكيك علناً في سيادة واستقلال أوكرانيا، ودول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي منذ عام 2004، في معرض رده على سؤال عما إذا كان يعتبر شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014، جزءاً من أوكرانيا بموجب القانون الدولي.

إذ رد قائلاً إن: «كل دول الاتحاد السوفييتي السابق بما فيها دول البلطيق لا تتمتع بوضع فعال في القانون الدولي، حيث لا توجد اتفاقية دولية من شأنها أن تعزز وضعها كدول ذات سيادة». ولم يكتف بذلك فأضاف: «هناك تاريخ يقول إن شبه جزيرة القرم هو في الأصل جزء من روسيا، وأن خروتشوف (الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف) هو من عرضها على أوكرانيا زمن الاتحاد السوفييتي». وبهذا نسف السفير حتى اعتراف بلاده بهذه الدول ككيانات مستقلة ذات سيادة معترف بها دولياً.



وبطبيعة الحال، تبارت الدول الأوروبية ومسؤولو الاتحاد الأوروبي في بروكسل في التنديد بتصريحات السفير والمطالبة بموقف واضح من القيادة الصينية إزاءها، بل اتخذ مراقبون وإعلاميون أوروبيون كثر من مواقف السفير دليلاً على غموض سياسات بكين وعدم حيادها في الشأن الأوكراني، وتحريضاً لموسكو على اتخاذ مواقف متصلبة ضد الكيانات المستقلة التي انسلخت عن الاتحاد السوفييتي السابق.

فعلى سبيل المثال، قالت المشرعة الفرنسية عن حزب النهضة الذي ينتمي إليه ماكرون، آن جينيت، إن تصريحات السفير مناقضة تماماً لموقف بكين الرسمي بشأن وحدة الأراضي واستقلال الدول الذي أكد عليه الرئيس شي جين بينغ لنظيره ماكرون قبل فترة وجيزة، وإن تناقض المواقف والتصريحات يثير تساؤلات حول حياد الصين تجاه أوكرانيا، فيما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قائلة: إن موقف بكين من الأزمة الأوكرانية وسياسات روسيا تجاه أوكرانيا هو الذي سيحدد مستقبل العلاقات الصينية الأوروبية. وقال وزير خارجية ليتوانيا إن تصريحات السفير الصيني توضح سبب ضعف ثقة أوروبا في الصين كوسيط ولاعب سلام، «فها هو سفيرها يجادل بأن القرم روسية، وأن حدود بلادنا ليس لها أساس قانوني».



وأما صحيفة «بليتيكو» الأمريكية فاكتفت بالقول: «حينما يكون لديك سفير مثل شاي، فلا تحتاج إلى أعداء»، في إشارة إلى أن هفوة أو تجاوزاً من دبلوماسي قد يكلف حكومته وضعاً حرجاً هي في غنى عنه. وهذا ما حدث بالفعل، إذ لم يسبق أن وجدت بكين نفسها محلاً لانتقادات أوروبية واسعة وهجوم على أحد دبلوماسييها كما حدث بعد تصريحات شاي المتلفزة.



بكين، بعد هذه الواقعة، نأت بنفسها عن سفيرها الذي لم يجد هو الآخر مخرجاً من ورطته سوى الادعاء بأن ما قاله كان مجرد رأي شخصي. حيث سارعت بكين، في محاولة لاحتواء الغضب الأوروبي، إلى إصدار بيان على لسان المتحدث الرسمي لخارجيتها ماو نينغ في 24 أبريل الفائت أكدت فيه أن: «كل جمهورية سوفييتية سابقة تتمتع بوضع دولة ذات سيادة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي».



ويعتقد أن قيام الرئيس الصيني في الأسبوع الماضي بإجراء أول اتصال هاتفي بنظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي منذ ما قبل اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، كان ضمن محاولات القيادة الصينية نزع فتيل الأزمة وتفادي الأسوأ وتهدئة مخاوف كييف من تشكيك الصين باستقلالها وسيادتها، خصوصاً وأن المكالمة استغرقت أكثر من ساعة، وإنْ قيل إن الاتصال كان حول بحث مستجدات مقترح السلام الصيني (يراوح مكانه دون نتائج فعلية منذ أشهر)، وإعادة تأكيد بكين لموقفها المعلن بشأن احترام سلامة وسيادة الدول ورفض التلويح باستخدام السلاح النووي.



*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي