مكالمة هاتفية من رقم مجهول تلقتها سيدة تعيش بولاية أريزونا الأمريكية. ابنتها ذات الخمسة عشر عاماً تستغيث باكية. الابنة قالت «أمي، لقد ورطت نفسي».

وقبل أن تقول السيدة كلمة واحدة كان المتحدث على الجانب الآخر رجلاً لا تعرفه قال لها «ابنتك معي»، ثم حذرها من الاتصال بالشرطة، وإلا سيعبر بابنتها الحدود إلى المكسيك ولن تراها مدى الحياة. وطلب الرجل فدية قدرها مليون دولار مقابل عودة الابنة.لكن بعد فترة وجيزة بدت كالدهر، اكتشفت الأم أن القصة كلها ملفقة وأن ابنتها بخير ولم تختطف.

فالصوت الذي سمعته كان من إنتاج الذكاء الاصطناعي إذ استغل أحدهم صوت الابنة المسجل على حسابها بإحدى مواقع التواصل الاجتماعي واستخدم برنامجاً أنتج الكلمات التي سمعتها أمها. لذلك، وحسب صحيفة الإندبندت التي نشرت الخبر، لم تشك الأم لحظة في أن الصوت صوت ابنتها فعلاً.

والتجربة المخيفة التي عاشتها تلك الأم تطرح عشرات الأسئلة التي لا تزال دون إجابات. فلا شك أن التقدم المذهل بمجال الذكاء الاصطناعي يشكل تحولاً إيجابياً كبيراً في حياتنا اليومية. فنحن نستخدمه في كل شيء تقريباً بدءاً من جهاز الكمبيوتر وقدرته على استرجاع البيانات وحفظها وتبويبها ووصولاً للخلايا الجذعية التي صارت أملاً للشفاء من أمراض عضال.

لكن التقدم الكبير الذي شهده العقد الأخير في هذا المضمار بات يطرح سؤالاً محورياً. فما هي الوسيلة المثلى لتوجيه دفة أبحاث التقدم العلمي في هذا المجال حتى تؤتي ثماراً إيجابية دون أن تدمر حياة البشر.

وتطوير الذكاء الاصطناعي يقوم في جوهره على جعل الآلات، بشتى أنواعها، تكتسب مهارات تمكنها من القيام بالمهام التي يقوم بها الإنسان. ويحدث ذلك عبر كتابة لوغارتم لتلك الآلة، يتم من خلاله تغذيتها بمئات الآلاف إن لم يكن الملايين من البيانات تمكنها من القيام بمهمتها.

وقد حدث تطور كبير ومتسارع حتى غدت الآلات قادرة ليس فقط على القيام بالمهام الميكانيكية وإنما الأعمال الفكرية إذ صار بإمكانها إنتاج شتى أنواع الفنون، وكتابة المقالات والبحوث، والترجمة، بل وإجراء محادثة مع الإنسان.

والآلة حتى تكتب مقالاً مثلاً، لا بد من تغذيتها بمئات الآلاف إن لم يكن الملايين من الأعمال الفكرية. وهنا نصبح أمام معضلة أخلاقية تتعلق بحقوق أصحاب تلك الأعمال الفكرية. فالحقيقة أن أحداً لم يستأذنهم في استخدام إنتاجهم الفكري في تغذية الآلات.

ثم ماذا عن المقال الذي تنتجه الآلة؟ من الذي يملك حقوقه الفكرية؟ هل هم كل الكتاب الذين اعتمدت على أعمالهم الآلة؟ أم أنه الشخص الذي قام ببرمجة الآلة لتكتب المقال المذكور؟ والشيء ذاته يصدق على الذكاء الاصطناعي في مجال الفنون والترجمة ومختلف الأعمال الذهنية. ألا يعني ذلك أن هناك حاجة لقوانين تنظم عمل ذلك العلم الجديد وتمثل ميثاقاً أخلاقياً؟ لكن الإجابة عن هذا السؤال تطرح معضلة أخرى.

فالمشرع يتصدى لمجال يشهد تطورات متلاحقة ليس بالضرورة مؤهلاً لسبر أغوارها فتكون المفارقة. فمعرفة المشرع بخفايا ذلك التقدم حتى يقوم بتنظيم عمله مرهونة بما قد تتيحه له الشركات العملاقة نفسها المنتجة لتلك التقنيات والمراد تقنين عملها.

وما لا يقل أهمية عن كل ذلك هو السؤال الخاص بقيمة العمل في حياة الإنسان. فنحن إزاء تطور سيأتي معه حين من الدهر تندثر فيه عشرات المهن التي ستقوم بها الآلات بدلاً من البشر. فماذا عن الملايين الذين تحل محلهم الآلات؟ كيف سيقضون وقتهم وكيف ستمضي حياتهم؟

وكيف سيكسبون قوت يومهم؟ وماذا عن الثروة التي تتراكم بموجب عمل الآلات؟ هل يجب توزيعها بالتساوي على الملايين الذين صاروا بلا عمل؟ وإذا توقف الملايين عن العمل فعلاً، ألن تتوقف المادة التي يتم تغذية الآلات بها عند لحظة زمنية بعينها؟ هل معنى ذلك أن يتوقف تقدم الذكاء الاصطناعي وقتها؟ كل تلك الأسئلة وعشرات أخرى غيرها لا تزال بلا إجابات. بل أن مثل هذا التقدم سوف يظل يطرح المزيد من تلك الأسئلة الجديدة والتي ستظل أغلبها، على الأرجح، دون إجابات لعقود مقبلة.