يبدو واضحاً أن موجات سياسية واجتماعية وثقافية واسعة راحت تجتاح عديداً من دول أوروبا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2018، تشترك معاً في كونها تنتمي لما بات يسمّى قوى اليمين المتطرف والشعبوي.
ففي المجر، زادت سيطرة حزب التحالف المدني اليميني الحاكم «فيديس» بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان عبر الانتخابات البرلمانية عام 2022، بعد 12 عاماً من الحكم، وذلك بحصوله على نحو ثلثي الأصوات فيها. وفي السويد وبنفس العام، فازت للمرة الأولى، الكتلة المكونة من اليمين المتطرف واليمين المحافظ الليبرالي بالانتخابات التشريعية التي جرت في سبتمبر. وقبل هذا وبنفس العام في فرنسا، وصلت زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، مارين لوبان، لدور الإعادة مع الرئيس المنتخب إيمانويل ماكرون للمرة الثانية، ولكن بزيادة نسبتها من نحو 34% في انتخابات 2017 إلى أكثر من 41% في الانتخابات الأخيرة، مترافقاً مع حصول حزبها على 89 مقعداً، ليصبح أكبر حزب معارضة في الجمعية الوطنية مع خسارة الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة. وفي إيطاليا، حقق اليمين المتطرف ممثلاً في حزب «إخوة إيطاليا» بزعامة جورجيا ميلوني مع حليفيه حزبي «رابطة الشمال» و«فورزا إيطاليا»، فوزاً غير مسبوق بالسيطرة على مجلسي البرلمان وتولي رئاسة الحكومة.
وقبل أن ينتهي عام 2022، كانت الحكومة السابعة والثلاثون الأشد يمينية وتطرفاً قد تشكلت في إسرائيل برئاسة بنيامين نتانياهو، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الدولة العبرية، من تحالف يضم ستة أحزاب هي الأكثر يمينية والأقصى تشدداً. ولم يكن كل هذا بعيداً كثيراً عما شهدته العاصمة الأمريكية واشنطن في 6 يناير 2020، بعد إعلان خسارة الرئيس الجمهوري المتشدد والشعبوي دونالد ترامب في الانتخابات، من اجتياح عنيف ومسلح من أنصاره لمبنى الكابيتول، حيث مقر مجلسي الكونغرس الأمريكي، ورمز الديمقراطية الأمريكية منذ انتهاء الحرب الأهلية وتوحيد الدولة.
وعلى قدر اتساع التمايزات بين كل تلك الأحزاب والاتجاهات الموصوفة باليمينية والمتطرفة، إلا أنها تجتمع على قواسم مشتركة، من أبرزها الانكفاء على النزعة القومية والشعور بالتهديد من الآخر المختلف واعتباره «عدواً» يستحق الاستئصال، وبخاصة المهاجرون من دول غير أوروبية والمنتمون لديانات أخرى غير المسيحية. وتتفق أيضاً تلك القوى في إعلاء التاريخ الخاص لأممها، التي تعتقد أنها موطن الانتماء الوحيد لأفرادها، ولا تعترف علناً ولا سراً بفكرة الأصول المختلفة حتى لمن يحملون جنسية بلادها وتعدهم قوانينها «مواطنين» فيها.
وقد تعددت التفسيرات لهذه الموجة المتصاعدة لقوى اليمين والتطرف، خصوصاً وأنها تحدث في دول أوروبية والولايات المتحدة، والتي هي بكل تعريفات علوم السياسة والاجتماع والثقافة، تدخل ضمن الدول الموصوفة بالحديثة والديمقراطية. والأكثر رجحاناً فيما يخص هذه الظاهرة الناشئة أن لها أسباباً تتعلق بمراحل تطور المجتمعات الغربية عموماً، أوروبية وأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سبق لعديد من الدراسات المتخصصة أن تطرقت إليها، إزاء التطور الذي أخذته بصور متنوعة منذ هذا الوقت وحتى اليوم.
أما العوامل الإضافية التي دفعت هذه الظاهرة للتمدد والاتساع خلال الأعوام الأخيرة، فقد يكون من بينها ذلك الضعف والتحلل العام الذي أصاب القوى والأحزاب التقليدية والموروثة من مرحلة الحرب الباردة، والتي درج تصنيفها إلى يسارية ويمينية استناداً إلى رؤاها الاقتصادية والاجتماعية. ففي عالمنا الجديد الذي اجتاحته التطورات التكنولوجية الهائلة، وخاصة في مجالات الاتصال، بات الإحساس بتهديد الذات الفردية والهوية الجماعية المنتمية لها، يتصاعد تدريجياً لدى قطاعات من الشعوب الأوروبية والأمريكية في مواجهة ما يتدفق إليها عبر وسائل الاتصال الحديثة من أمم وشعوب وثقافات أخرى مختلفة. وتفاعل مع هذا الإحساس بالخطر على النفس الفردية والكيانات الجماعية، مع عدم تقديم القوى والأحزاب التقليدية المشار إليها تصورات أو حتى اهتماماً بهذا المتغير الجديد، وظلت ماضية في رؤاها الاقتصادية والاجتماعية القديمة.
وترافق هذا مع الاضطراب الشديد أخيراً في أوضاع النظام الدولي، وهو ما جسدته عياناً الحرب الروسية – الأوكرانية، وأحاطت به مواجهات الصين الصامتة مع مختلف دول الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، مما أفرز بمجتمعاتها درجة عالية من الفوضى واضطراب المعايير والسيولة الفكرية والثقافية، وهو ما أدى إلى تنشيط الأفكار والفلسفات والرؤى الكبرى ذات الطبيعة المتطرفة، سواء كانت دينية أم قومية أم أيديولوجية، وجعلها تكتسب أنصاراً جدداً كل يوم، بعض منهم يتمتع بخصائص وطباع فردية أميل للتطرف فيتضاعف الأثر عليهم ويضحون أكثر تطرفاً.
* باحث وكاتب والرئيس الفخري لاتحاد الصحافيين العرب