تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية السجال الكبير بين أعضاء الحزبين الرئيسيين؛ الديمقراطيين والجمهوريين، وتم إصدار قانون يسمح بتجاوز سقف الدَّين الأمريكي، أي الاقتراض بأكثر مما يسمح به الدستور الأمريكي من سقف مديونية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو مفهوم يعني ببساطة رفع قدرة الحكومة على الاقتراض لتغطية العجز في تمويل نفقاتها، ما يعني أن يتم تجاوز حجم الدَّين العام التراكمي القائم.

ويشكل الدَّين العام الأمريكي اليوم نحو ثلث حجم إجمالي المديونية العالمية العامة، ونحو 11 % من حجم المديونية العالمية العامة والخاصة مجتمعة، بيد أن تاريخ التخلي عن سقف الدَّين ورفعه في الولايات المتحدة طويلٌ يتجاوز المئة عام، حينما سمح الكونغرس برفع سقف الدَّين عام 1917 بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى، وقد استمر الأمر سجالاً بين قطبي السياسة في أمريكا طوال تلك الفترة، حيث تمَّ تغيير أو تعليق سقف الدَّين لنحو 78 مرة منذ 1960.

واليوم يقف العالم على مفترق جديد في ظل مديونية متفاقمة، فيما لا تشير مؤشرات المديونية العامة للولايات المتحدة إلى أن الحاجة إلى تمويل العجز القائم، أو القادم، قصيرة الأمد، بل هي حاجة هيكلية فرضها هيكل الإنفاق العام وتطوراته على مدى الأعوام المنصرمة من القرن الحالي، وتحديداً منذ 2001.

والمقلق عالمياً هو أن تتوقَّف الحكومة الأمريكية عن سداد مستحقات دَينها، ما سيعني للعالم أجمع تهديداً للقوة الشرائية للدولار الأمريكي، وقد يؤدي إلى انهيار قيمته، وبالتالي تهديد الاستقرار النقدي لمعظم دول العالم التي ربطت عملاتها به منذ التخلي عن قاعدة الذهب والتحوُّل إلى الدولار كعملة للتسويات العالمية منذ 1971، لكن المؤشرات والتجربة العملية، على مدى نصف قرن، تشير إلى أن الشدَّ والجذب بين القطبين الأمريكيين ينتهي بتفاهم ومكاسب هنا وهناك.

إن موضوع المديونية العامة لا يخصُّ مديونية الولايات المتحدة فحسب؛ لأن المديونية العامة لكل دول العالم، البالغة نحو 94 تريليون دولار، تشكّل نحو 97 % من الناتج المحلي العالمي، حسب الإحصاءات الرسمية، وإذا أضيف إليها مديونية الأفراد والمؤسسات، تصبح نحو 303 تريليونات دولار، وتشكّل في مجموعها ما يقرب من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي حالة الاقتصادات الناشئة والنامية، تشير الإحصاءات إلى أن المديونية الإجمالية للدول والمؤسسات والأفراد تتجاوز 256 % من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول.

وتعدُّ اليابان، حسب إحصاءات 2021، أكبر دول العالم مديونية بنسبة تصل إلى 256 % من ناتجها المحلي، يأتي بعدها اليونان، بنسبة تتجاوز 205 %، ومن ثمَّ السودان ولبنان وإيطاليا، بنسب 205 إلى 170 % من ناتج تلك الدول المحلي الإجمالي.

هذه العوامل تتحدَّد أولاً في سبب نشأة المديونية، وثانياً في مصدر الحصول عليها، أي مصدر تمويلها، وثالثاً في هيكل إطارها الزمني قصير أم طويل الأمد، وأخيراً وليس آخراً موارد تمويل سدادها داخلياً أم خارجياً. وتعدُّ المديونية الناشئة عن تمويل مشاريع رأسمالية استثمارية رافعة للاقتصاد، ذلك أنها تنشأ عن استثمارات في المشاريع الكبرى المُجدية، ومشاريع البنية التحتية التي تدعم جذب الاستثمارات وتحفزها، في حين أن المديونية الناشئة عن تمويل العجز المالي الجاري مديونية هيكلية أساسها الإنفاق خارج الإمكانات، وعدم ضبط النفقات، وسوء توزيع أولويات الإنفاق، وعدم العدالة في تحصيل الإيرادات، أو في توسيع القاعدة الضريبية، وهو ما يُسمّى سوء الهندسة المالية للنفقات والإيرادات العامة، وينتج عن ذلك عجز ناشئ عن عدم قدرة الدولة على دفع وتغطية نفقاتها الجارية من رواتب، وتقاعد، وخدمات صحية وتعليمية وغيرها، من مصادرها المحلية، وهي مديونية مقلقة أساسها ضعف الهندسة المالية للدولة، وهي مديونية غارقة، يصعب على الدول تعويمها، أو تسويتها من دون برامج إصلاح مالي حقيقية، ما يستدعي اتخاذ إجراءات قاسية مستقبلاً لغايات تصويب الأوضاع، والرضوخ لبرامج تصحيح اقتصادي مؤلمة.

ويزيد من عبء المديونية مصدر تمويلها، إن كان عبر قنوات تجارية محلية أو خارجية، ما يعني زيادة أعباء خدمتها، من حيث سعر الفائدة، وفترات السداد، فالمديونية من مصادر تجارية تعتبر مرتفعة الثمن من حيث أسعار الفائدة، وهي في العادة ذات فترات قصيرة أو متوسطة الأمد، لطبيعة الديون التجارية التي تتمركز حول فترات قصيرة ومتوسطة، من عام إلى 5 أعوام على أقصى تقدير، وهي مديونية مغرِقة للدول، خاصة إن كانت مديونية مرتبطة بنفقات جارية حيث تلجأ العديد من الدول إلى تسديدها عبر دوّامة الاستدانة المستمرة لغايات تسديد الديون القديمة والدخول في ديون جديدة ذات كلف مرتفعة بشكل مستمر، ما يؤدي إلى إرهاق الموازنات السنوية ببنود خدمة الدَّين، أي دفع الأقساط والفوائد، عاماً بعد عام وبقيم مرتفعة بشكل مضطرد، إلى حين الوصول إلى حالة الغرق في خدمة دَين غير قابلة للاستدامة أو التمويل إلا من خلال إجراءات قاسية، عبر بيع الأصول، أو تطبيق برامج تصحيح تقوم على زيادة الضرائب والرسوم، ورفع الدعم، والمعونات ما يؤثّر سلباً في مستويات الدخل والقوة الشرائية للأفراد.

ويفاقم من مشكلة المديونية العامل الثالث من العوامل المشار إليها سابقاً، خاصة إن كان مصدرها خارجياً، ما يعني استنزاف موارد الدولة، واحتياطياتها الأجنبية، لسداد مديونية جارية غير داعمة وغير رافعة للاقتصاد وبكلف عالية، لجهات تجارية، وهو أمر يؤدي في النهاية إلى تخفيض قيمة العملة بنسب كبيرة، تضرب بشكل أساس القوة الشرائية لأصحاب الدخل الثابت، المحدود والمنخفض، فالمديونية الجارية، الممولة من مصادر تجارية خارجية، تعني استنزاف الاحتياطيات الأجنبية للدول المدينة، لتكون المحصِّلة ضرورة تخفيض العملة، وما يستتبعه ذلك من انخفاض القوة الشرائية وتلاشي الدخول، في حين أن المديونية الرافعة، المموّلة للمشاريع الاستثمارية، إنما تؤدي إلى تحريك الاقتصاد، وخلق الوظائف، وتأمين دخل للدولة يساعدها على سداد ديونها من جهة، ومن جهة أخرى مكافحة البطالة والفقر وتحقيق معدلات نمو وتنمية في مناطق الدولة كافة.

وعلى صعيد آخر، فإن المديونية الناشئة عن نفقات جارية ومموّلة من مصادر تجارية محلية تؤدي إلى لجوء بعض الدول إلى سدادها عبر طبع النقود، وما يعنيه ذلك من معدلات تضخم عالية، وفقدان للقوة الشرائية للعملة، وبالتالي تآكل مستويات الدخل الثابت للفئات محدودة ومنخفضة الدخل.

والمديونية الغارقة هي النفق الذي تدخله الدول، بما يحويه من معدلات تضخم وبطالة، وسوء إدارة مالية عامة، ولا تخرج منه إلا ببرامج تصحيح قاسية وصعبة على الأجيال الحالية والقادمة، وإجراءات تضرب بعنف القوة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود، وتُغرق الدول لفترة طويلة في مستويات تنمية متراجعة، وفي تراجع ملموس لجودة الحياة.

ولعلَّ المخرج ليس فقط في برامج تصحيح قاسية، على الرغم من أهميتها، لكن في توجُّهات مستدامة تؤدي إلى سداد الديون القائمة عبر معادلة استثمارية من خلال مشاريع كبرى يتم من خلالها عقد اتفاقات مع استثمارات عالمية للمساعدة على سداد خدمة الدَّين على مدى فترة استحقاقه، مقابل تفويضها بمشاريع كبرى في الدول، بما يحقّق هدفين بإجراء واحد؛ هدف سداد الدَّين المُرهق المُغرق، وهدف دخول استثمارات كبرى تؤدي إلى تحقيق التنمية، وخلق الوظائف، وتحقيق إيرادات عامة آنية ومستقبلية؛ شريطة أن تتعهَّد الدول بضبط ماليتها وحسن هندستها وعدم الدخول في نفق الديون الغارقة من جديد.

 

*أستاذ مشارك سياسات عامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية