كل الفلاسفة صادقون مع ذواتهم، ونيتشه أحد أصدق الصادقين. أن يكون الفيلسوف صادقاً لا يعني أنه مصيب، بل الصدق هنا الفكر غير المرائي، الصدق هو القول الصادر عن الذات المتحررة من الزائف، إنه صادق مع نفسه وصادق مع الآخرين.
نيتشه سخي كالشمس، لم يتلعثم أبداً، بوحه نزق، أجل هو كما وصف نفسه «كائن من ديناميت».
تحمل الشذرة عند نيتشه الفكرة ـ الحدس ـ التي كثفت إلى الحد الذي يصح فيها قول النفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».
وشذرات «هكذا تكلم زرادشت» معجم نيتشه الفلسفي، تحملك على التأمل الذي لا ينفد، حتى لتبدو كل شذرة شخصية مستقلة من القول.
في شذرة قصيرة من شذرات هكذا تكلم زاردشت بعنوان «خطب زرادشت عن التحولات الثلاثة»، نرصد حياة العقل وكفاحه على دروب الحرية. العقل الجمل، العقل الأسد، العقل الطفل. فهذا النص قصير ممتلئ بما ليس بمألوف من المفاهيم والأفكار.
العقل المكابد، العقل المكابد الذي ترنو قوته إلى الثقيل. إنه الجمل الذي يسأل ما الثقيل؟ يجثو على ركبته ويطلب حملاً جيداً.
يسأل العقل الجمل حملاً ثقيلاً كي يزهو بقوته «ما هو الأكثر ثقلاً أيها الأبطال».
«إنها حط الواحد من نفسه»، «سخرية الحمق من الحكمة» «تسلق الجبال الشاهقة لتجريب المجرب»، «مكابدة الروح للجوع من أجل الحقيقة»، «ولوج المياه القذرة»، «مد اليد إلى شبح يريد أن يرعبنا».. العقل الجمل يسير في صحرائه بالثقيل.
الثقيل الذي يحمله العقل - الجمل إذاً التواضع، الحمق، تجريب المجرب، أعشاب المعرفة، جوع الروح، المياه القذرة، مصافحة الأشباح.
في الصحراء حيث «الخلاء» يحدث تحول العقل من جمل إلى أسد.
يرمز العقل الأسد إلى الحرية، ها هو عقل الأسد الحر يقارع «التنين الأكبر» الذي ليس في فمه إلا «ينبغي عليك» على حراشف التنين تلمع جملة «ينبغي عليك».
«ينبغي عليك» يقولها التنين مطمئناً إلى أن جميع القيم هي هو ولا مكان لـ«أنا أريد».
العقل الأسد يتجاوز العقل الجمل. فالعقل الجمل خاضع لـ«ينبغي أن» فيحمل الأثقال، الأثقال التي هي قيم قدت مرة وإلى الأبد، القيم التي صارت واجباً.
العقل الأسد: أمام هذا الذي «ينبغي أن» يعلن «اللا» يقول «لا» التي بدونها لا حرية وتحرر من «ينبغي أن»، ومن أجل أن يتحرر من «ينبغي أن» لابد أن يخلق قيماً جديدة، حرية ابتداع قيم جديدة.
لكن العقل الأسد سرعان ما يتحول إلى العقل ـ الطفل، العقل الطفل براءة ونسيان، لعب، نعم مقدسة. إنها لعبة الإبداع.
الأسد أمام «ينبغي أن» يجد نفسه مأسوراً، مأسوراً بالنظام المتعالي ـ بلغتنا. كل نظام متعال هو نظام «ينبغي أن».
يتحول الأسد إلى طفل، الطفل الذي لا يعرف ما ينبغي وما لا ينبغي في فضاء حر يعيش، يعيش ليقوم بفعل اللعب، في اللعب يجد الطفل ذاته. في اللعب تبرز موهبته، عبقريته، أي إبداعه.
كيف يتعين اللعب، وبماذا؟ لا يجيب نيتشه مباشرة على هذا السؤال. لكنه يعني العيش في عالم الإبداع.
كل إبداع هو تعين اللعب. هذه الفكرة نجدها عند «شيلر» من حيث تأكيده على حرية الكائن في الخلق الفني المبرأ من المنفعة.
الطفل: الفنان، الشاعر، المبدع، الطاقة الخلاقة التي تلعب دون أن تسأل لماذا؟ من دون آمر أخلاقي، أو أي آمر من النظام المتعالي.
الإنسان إذاً متنوع، الإنسان الجمل، الإنسان الأسد، الإنسان الطفل. ربما كان وعي نيتشه بذاته هو وعيه بالإنسان الطفل. هل نقول بكل اطمئنان إن المبدع هو الطفل الدائم الذي يلعب فيبدع؟
* كاتب وأكاديمي فلسطيني