عندما أطلق ميخائيل غورباتشوف، وهو آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، قبل التفكيك، مشروعه «البريسترويكا»، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، جادل كثيرون بأن الرجل، الذي عرض مشروعه في كتاب، قدم أفكاراً تطويرية عميقة وجذرية، فضلاً عن إجرائه مراجعة نقدية لتجربة الاتحاد السوفييتي، من دون أن يخرج عن الأسس الأيديولوجية للحزب الشيوعي السوفييتي الذي كان للتو قد وصل إلى أمانته العامة، بعمر ست وخمسين سنة، وهو أصغر شخص يصل هذا المنصب منذ الثورة البلشفية.

لكن التطورات اللاحقة التي شهدت الانقلاب الفاشل ضد غورباتشوف والذي مهد لإبعاده عن الكرملين، بعد قليل من عودته إليه، كشفت أو برهنت على أن الأفكار الجيدة وحدها لا تصنع واقعاً جيداً، وأن إعادة البناء (البريسترويكا) ليست مجرد توجه أو قرار أو إجراءات تلغي جزءاً مما مضى وتأتي بشيء جديد، بل هي عملية أشد تعقيداً من عرض العضلات الأيديولوجي وسن سيوف النقد والنقض لتجربه لها ما لها وعليها ما عليها.

غورباتشوف نفسه قال في ذلك الوقت إنه لكي نبني البناء الجديد علينا أن نكنس ركام البناء المنهار، والكنس هنا لا يحمل المعنى الحرفي للكلمة، بل أعمق من ذلك.

لذلك، حين رفع كثيرون شعار التغيير على جبهة ما سمي «الربيع العربي»، ظن البعض أن الدول التي احترقت شوارعها ومؤسساتها المدنية قبل العسكرية، وقتل أبناؤها وبناتها، وشردوا بالملايين، ستتحول إلى جنان على الأرض.

ما مصدر ذلك الظن، إن لم يكن إثماً؟ مجرد تشخيص سطحي وأحلام وردية، واعتقاد لا علاقة له بالعلم والتاريخ بأن مجرد رفع الشعار «الشعب يريد تغيير النظام» وتلقي بعض الدعم الخارجي، يمكن أن يأتي بالتغيير على «طبق من شعار»، والأغرب إطلاق وصف «ثورة» على حراك له علاقة بكل شيء إلا الثورة، كما عرفناها عبر التاريخ.

بعض المحللين في بدايات الربيع المزعوم، تحدث عن تطور جديد في نظرية التغيير، مفادها أن «الشعب يثور بلا قيادة»، وأن التغيير يتحقق «من تحت»، لكن سرعان ما تبدد ذلك الوهم تدريجياً، مع الأيام وما حملته من نتائج كارثية.

لقد أطل التاريخ برأسه ليقول إن ثمة ثوابت لا تغيرها كل التطورات التي طرأت في علوم السياسة والاقتصاد والإعلام، وأهمها أن لا تغيير ثورياً من دون قيادة ثورية وبرنامج ثوري بديل.

لكن قبل ذلك، هناك ما هو أهم، أعني الخصوصية والظروف الخاصة لكل شعب، ما يعني أنه لا وجود لشكل واحد للتغيير على غرار «الوصفة الطبية». فمن يطرح التغيير عليه أن يحدد أهداف العملية التي تقود إلى التغيير، ويجب أن يقدم النموذج القيادي واضح الأصل والفصل والوسائل والأهداف. هذا يعني أن التغيير لا يمكن أن يكون آمناً وفي الاتجاه الصحيح، حين تقوده ثلة من وراء ستار الإنترنت، على سبيل المثال.

فلو عدنا إلى ثورة العبيد، وهي جرت قبل ميلاد السيد المسيح بمئة وأحد عشر عاماً، نجد أن لتلك الثورة قائداً اسمه سبارتاكوس، وكذلك الأمر مع ثورات عدة عبر التاريخ، لا يتسع المجال لذكرها، لكنها تشابهت بأنها كانت لها قيادة موثوقة يعرفها الناس، وكانت لها برامج بديلة التف حولها الناس، وبشكل عام، انتهجت وسائل تصب في خانة الوصول للأهداف المعلنة. هذا لا علاقة له بموقفنا منها أو اتفاقنا معها أو مع بعضها، جزئياً أو كلياً.

ما جرى فيما سمي «الربيع العربي» أن هناك من استغل الحاجة للتغيير أو إعادة تشكيل الحياة السياسية، في شق طريق لا يوصل إليهما، بل طريق يحمل السائرين فيه في الاتجاه المعاكس، وقد جاءت الوقائع والنتائج لتدعم هذا الاتجاه.

التغيير حاجة موضوعية، بل هو كنه الحياة نفسها. كل شروق شمس ومغيب تمثل حالة تغيير، وكل طلوع قمر وأفول، يحمل تغييراً. لكن التغيير ينبغي أن يكون إلى الأمام وليس إلى الوراء، ثم إنه – وهذا الأهم - يجب أن ينطق من التربة الخاصة، ولا يأتي معلباً من الخارج، لأنه في هذه الحالة، كمن يعير وصفته الطبية لشخص يخيل له أنه يحمل المشكلة الصحية نفسها.

 

* كاتب فلسطيني