قبل كل فصل دراسي، أقوم منذ سنوات بتحضير المادة العلمية، عبر وسائط توفرها الجامعة، حتى تكون متاحة للطلاب إلكترونياً. وقد تبنيت إتاحة المادة إلكترونياً لسببين.
أولهما يتعلق بالحفاظ على البيئة. فقد أظهرت الدراسات أن صناعة الورق تزيد من تلوث الهواء ومصادر المياه، وتحتوي الأحبار هي الأخرى على كيماويات ضارة، ناهيك عن استهلاك الطاقة وتقطيع الأشجار لصناعة الورق. كما أن أسر الطلاب بالمراحل التعليمية المختلفة تعرف جيداً الحجم الهائل من الأوراق التي نتخلص منها فور انتهاء كل عام دراسي.
أما السبب الثاني، فلأن الأجيال الشابة أكثر مهارة من أجيالنا بكثير في استخدام الوسائط التكنولوجية، فقد تصورت أنني أُيَسر عليهم، إذ يمكنهم الاطلاع على المادة العلمية عبر الوسيط الذي يفضلونه سواء كان الحاسب الشخصي أو الهاتف.
غير أنني لاحظت مع مرور الوقت أن عدداً لا بأس به من الطلاب يأتون للمحاضرة ومعهم نسخ ورقية من المادة العلمية قاموا بطباعتها وخطوا في هوامشها بعض الكلمات أو لونوا الفقرات بألوان مختلفة تساعدهم على الاستيعاب، تماماً كما كنا نفعل في سني دراستنا التي لم تكن فيها تلك الوسائط الإلكترونية متاحة.
وبينما يأتي طلاب آخرون للمحاضرة فيدونون ملاحظاتهم باستخدام الحاسب الشخصي، يدونها آخرون على الورق بخط يدهم. عندئذ، أدركت أن الافتراضات التي ننطلق منها بخصوص أبنائنا وعلاقتهم بالتكنولوجيا رغم أنها صحيحة في مجملها، إلا أننا كثيراً ما نقفز منها لنتائج غير صحيحة نقوم بتعميمها على جيل كامل من الشباب.
الفرضية التي كنت قد انطلقت منها عندما اخترت طريقة توفير المادة الأكاديمية إلكترونياً فرضية صحيحة، فالأجيال الجديدة من أبنائنا أكثر مهارة فعلاً في استخدام التكنولوجيا، ولكن في القلب من تلك الفرضية وفي عملية البناء عليها فإن المفتاح هو «أفعل التفضيل»، إذا جاز التعبير.
لا شك أن الأجيال التي نشأت في ظل تطور تكنولوجي هائل واستخدمت شبكة الإنترنت والهواتف الذكية منذ نعومة أظفارها أكثر مهارة بكثير من أجيالنا التي تعلمت كل ذلك في الكبر.
لكن مثلما لا يجوز القفز من ذلك لنتيجة مؤداها أن كل فرد من أفراد جيلنا أقل مهارة من الأجيال الشابة، فإنه لا يجوز بالقدر نفسه اعتبار أن كل شبابنا بالمهارة نفسها في استخدام التكنولوجيا. كما أنه لا يعني أيضاً أن الأكثر مهارة بينهم يفضلون استخدامها في كل مناحي حياتهم، وخصوصاً في العملية التعليمية.
وقد دفعتني تلك الملاحظات للجوء للدراسات التي أجريت عن استخدام التكنولوجيا في التعليم. فوجدت دراسة تقول إن الطلاب يظنون أن لا فارق عندهم بين القراءة على الشاشة والقراءة من كتاب ورقي، ولكن الحقيقة تختلف عن ظنونهم.
فقد أثبتت التجارب العلمية أن قدرتهم على الفهم والاستيعاب تكون أعلى بكثير عند قراءة المادة الورقية. وترجع الدراسة السبب إلى أن العين التي تقرأ على الشاشة تسير عليها بسرعة أعلى من تلك التي تقرأ على الورق المطبوع.
وبالتالي، صحيح أن القراءة تكون أسرع على الشاشة، إلا أن تلك السرعة لا تصاحبها بالضرورة قدرة أعلى على التحصيل. كما أن استيعاب كل الأفكار لا تكون بالضرورة بالكفاءة نفسها التي تتحقق عند قراءة النص نفسه ورقياً. وفي دراسة أخرى، كانت المقارنة بين قراءة الكتاب الإلكتروني وقراءة المواد المنشورة على شبكة الإنترنت كالمقالات والأخبار.
فقد تبين أن التشتيت الذي يتعرض له القارئ في الثانية أعلى أكثر بكثير من الأولى. فالطالب الذي يقرأ مقالاً منشوراً في موقع إلكتروني يجد نفسه محاطاً بكم هائل من الإعلانات تشتت أفكاره حتى لو لم يقرأها تفصيلاً. كما أن المصادر الإضافية التي يمكنه الضغط عليها لمعرفة المزيد، رغم فائدتها، فإنها تحد هي الأخرى من القدرة على التركيز.
وكل هذا لا يعني مطلقاً التخلي عن استخدام التكنولوجيا في التعليم. فما ينطبق على الأجيال الحالية قد لا ينطبق على الأجيال القادمة. كل ما في الأمر أن علينا أن ندرك أن شبابنا رغم أنهم عموماً أكثر مهارة منا في استخدام التكنولوجيا فإن بعضهم على الأقل قد لا يفضلونها بالضرورة للدرس والتحصيل.