من نافل القول تأكيد بأن الترجمة قد شكلت على مر الحضارات ومازالت وسيلة من وسائل التزود بزاد الآخر المعرفي والجمالي وطريقة من طرق الحوار بين البشر.

حديثي ينصب على المترجم والترجمة، فنحن نشهد الآن انتشاراً واسعاً لترجمة علوم الغرب وآدابه وفلسفته، وهذا أمر محمود، ولكن ما المترجم، سألنا ما المترجم، ولم نسأل من المترجم، لأن سؤالنا عن ماهية عقل المترجم، وكل سؤال عن الماهية إنما يبدأ بما.

المترجم المهني الذي يبني علاقة خارجية مع المتَرجم ليس سوى آلة ترجمة، والحديث عن عقله محدود بمهنته.

وهذا مختلف عن المترجم الواعي لما يترجم والذي ينطوي على غاية معرفية - ثقافية. هنا نحن أمام رسالة عقل المترجم، العقل الذي يغتني بما يترجم.

لو حصرنا اهتمامنا بالترجمة الفكرية الفلسفية عن اللغات الأوروبية، فسنجد بأنه قد جاء حين من الدهر شاعت فيه ترجمة النصوص الماركسية عن الروسية والفرنسية والإنجليزية، وذلك من قبل مترجمين ينتمون إلى الماركسية.

إن عقل المترجم هنا متطابق مع عقل المٌتَرْجَم، فانتماؤه دفعه لترجمة ما وافق انتماءه وعزز من خياره المسبق.

وقس على ذلك مترجمي أعمال جان بول سارتر حيث كانت الوجودية السارترية منتشرة عربياً.

وقس على ذلك أيضاً مترجمي أعمال الفلاسفة الأوروبيين الآخرين.

تكوّن الترجمة بما هي كذلك عقل المترجم المغترب دون شعور منه أو بشعور، بحيث صارت النصوص المُتَرْجَمة مرجعه في خطابه والجواب عن أسئلته.

فحين تقرأ خطاب المترجم فأنت هنا لا تميز بين خطاب المترجم والمتَرجم عنه، فلقد تماهى عقل المترجم مع النصوص التي ترجمها.

يتصف عقل المترجم هنا بصفتين أساسيتين: صفة الخضوع إلى الأب المتفوق، وهو الأب الغربي عموماً، والاعتراف بمركزيته من جهة، وصفة الشعور بالتفوق بانتمائه إلى لغة المركز وخطابه، من جهة أخرى.

هذا الانشطار في عقل المترجم هو الذي يجعله على مبعدة من الخطاب الأصيل الذي ينتجه ابن اللغة العربية.

إن عقل المترجم المستَلب وعقل من والاه لا يحاور، بل يجرد أسلحة هايدجر وفوكو ودريدا وما شابههم ليصارع بهم عقول اللغة العربية.

ويقود العقل المغترب من جهة والخاضع لسلطة الآخر من جهة أخرى إلى حالة من فقدان علاقة النص المترجم ببيئة الترجمة الاجتماعية والمعرفية، فأهمية الترجمة في أن يعيد المترجم فهم عالمه بما تزود من مفاهيم النص المُتَرْجَم، بحيث تتحول المفاهيم الجديدة إلى أدوات معرفية في فض الواقع الخاص.

لا شك بأن مفكر اللغة العربية يتزود بما قدمه المترجم، لكنه لا يرى التشبه بها معياراً لوضع علامة الرضى أو عدمه.

عندي بأن المترجم يقوم بوظيفة عظيمة في إغناء الثقافة والعقل، وبخاصة لأولئك الذين ينظرون إلى الفكر بوصفه حواراً وتأثراً وقطيعة.

وتظهر وظيفة الترجمة أكثر ما تظهر في مرحلة النهوض الحضاري، وبخاصة عندما لا يكون الزاد المحلي من الفكر والمعرفة كافياً للقيام بعملية النهوض. وعند عرب العصر الوسيط الخبر اليقين.

فمع ترجمة الفكر اليوناني وبخاصة أرسطو وازدهار الترجمة في العصر العباسي، تزود الفيلسوف العربي بالوعي الفلسفي وراح يكتب نصه الخاص انطلاقاً من مشكلات وعيه وأسئلته.

وعليه صار المُتَرجم جزءاً من الثقافة المحلية التي بدورها صارت عالمية بفضل عالمية الحضارة العربية. وتبرز هنا أهمية أن تخلق الترجمة حالتين: حالة الوعي النقدي بالنصوص المترجمة والحوار معها، وحالة توليد الأسئلة المرتبطة بمجالاتها سواء كانت لأدب أو الفلسفة والفكر أو العلوم المختلفة.

وعندي بأن الترجمة التي لا تولد أسئلة إنما تدل على نوع من الركود الثقافي، وليس على عدم أهمية النصوص المترجمة.

وإذا غابت الأسئلة وترافقت مع الترديد الأعمى لما ترجم فاعلم بأن غياب الترجمة وحضورها سيان.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني