طويل القامة، رشيق، كثيف شعر الرأس أبيضه، لحيته، البيضاء أيضاً، من ذلك النوع الذي نسميه قفلاً، في الستين أو ربما جاوزها بقليل. كلما رأيته يمارس رياضة المشي في المجمّع السكني الواقع على البحر قفزت إلى رأسي صورة الممثل الهندي الشهير «أميتاب باتشان». دائماً ما يحمل في يده بذوراً لا أعرف نوعها، وكلما مر بمساحة مزروعة دس قليلاً من تلك البذور في جانب من الأرض. لم يتخلف ولا مرة عن هذه العادة في كل فصول العام. كنت في كل مرة أراه أنوي أن أسأله عن نوع البذور التي يحملها في يده، وهل نبت شيء منها، وهل يمكن أن يريني إياها، لكنني أؤجل سؤالي إلى وقت آخر. اختفى من مشهدي الصباحي اليومي منذ أسبوعين تقريباً. أرجّح أن يكون قد سافر ليقضي الإجازة الصيفية في بلده.
متوسط الطول، بدينٌ إلى حد ما، شديد بياض البشرة، أوروبي الملامح، حليق شعر الرأس، ربما ليخفي الصلع الذي تسلل إلى أغلبه، تغطي وجهه لحية سوداء، على مشارف الخمسين أو ربما جاوزها بقليل.
كان يحمل في يده دائماً حقيبة من ذلك النوع الذي يعلق على الظهر. أراه كل صباح تحت جسر المشاة الذي يصل المجمع السكني بالجزيرة الصغيرة التي تقع على الناحية الأخرى من القناة المائية، يفتح حقيبته، يخرج منها زجاجات ماء وعلب أكل مخصصة للقطط. ما أن تراه القطط حتى تجري إليه، تحيط به من كل ناحية، ينظف الأواني المخصصة لأكلها، يفتح العلب، يضع الأكل في الأواني، ويطمَئنّ إلى أن كل قطة أخذت حصتها من الطعام قبل أن ينتقل إلى الناحية الأخرى من الجزيرة حيث يتجمع عدد آخر من القطط في انتظار قدومه. هي قطط من ذلك النوع الذي يسمونه قطط شوارع، قطط ربما لا تكون محظوظة لعدم اقتناء أحد لها والعناية بها كما هو حال قطط البيوت المدللة، لكنها محظوظة بوجود إنسان مثل هذا الرجل دائم الابتسامة، الذي يعتني بها ويوفر لها الماء والطعام ويمسح على ظهورها كل يوم. في كل مرة كنت أراه فيها أنوي أن أسأله عن سر اهتمامه بالقطط، وأشكره على العمل الذي يقوم به، لكنني أؤجل هذا إلى وقت آخر. ربما كان اندماجي في الكتب الصوتية، التي كنت أسمعها وأنا أمارس رياضة المشي، هو ما يجعلني أؤجل سؤاله وشكره كل مرة.
عندما لقيته في ذلك الصباح، كنت على وشك أن أفعل ذلك لولا استغراقي في الاستماع إلى الفصل الذي كنت قد وصلت إليه من رواية الكاتب الياباني هاروكي موراكامي «يوميات طائر الزنبرك». كان الفصل محورياً ومهماً، الأمر الذي جعلني أؤجل السؤال والشكر إلى اليوم التالي.
كان موراكامي يتحدث عن البئر التي حبس بطل الرواية «تورو أوكادا» نفسه فيها بغرض التأمل بعد أن هجرته زوجته «كوميكو» فجأة ومن دون مقدمات. كانت حياته الزوجية على وشك التبدد، وكان حائراً لا يعرف ماذا يفعل. لم أكن أحفل بما كان سيؤول إليه أمر «أوكادا» و«كوميكو» قَدْرَ ما كنت معجباً ببراعة «موراكامي» في رسم وتطوير شخصيات رواياته التي كنت قد قرأت منها «كافكا على الشاطئ» و«مقتل الكومنداتور». تمنيت لو أنني ملكت موهبة «موراكامي» وبراعته في التصوير، إذاً لوصفت لكم كل الذين أقابلهم في الحياة بشكل أدق وأروع.
في صباح اليوم التالي مررت من تحت جسر المشاة الذي اعتدت أن أرى صاحبنا صديق القطط يجلس بجواره. كان يبدأ رحلته من هذا المكان ثم يذهب إلى الناحية الأخرى، التي تحجبها المباني التي أقيمت حديثاً، من الجزيرة الصغيرة. كانت الجزيرة قبل سنوات قليلة عذراء خالية من المباني، أما اليوم فهي تزدحم بالمباني الشاهقة.
تحت الجسر كانت هناك مجموعة من القطط تأخذ مكانها في انتظار صديقها الذي لم يأتِ هذا الصباح. توقعت أن أجده في الجانب الآخر من الجزيرة، حيث كانت مجموعة أخرى من القطط تنتظر، لكنني لم أجده هناك أيضاً. أين هو صديق القطط اللطيف المبتسم دائماً؟ هل ذهب هو الآخر في إجازة إلى بلده أو أي مكان؟ كان هذا هو الاحتمال الذي تمنيته أكثر من أي احتمال آخر من الممكن أن يكرس غيابه.
ثمة أشياء في هذه الحياة علينا ألّا نؤجلها لأوقات أخرى، فربما لا تأتي هذه الأوقات أبداً، وربما إذا أتت لا تكون مناسبة لما كنا نريد أن نفعله فيها.