تتضارب التوقعات وتختلف الاستنتاجات بشأن ما يمكن أن تصل إليه الحرب الدائرة في أوكرانيا لحوالي 17 شهراً، حرصت خلالها الأطراف المتصارعة على احترام الكثير من الخطوط الحمراء، فلا الحرب امتدت إلى دول أخرى مجاورة، ولا السلاح النووي جرى استخدامه رغم التهديد به أكثر من مرة، ولا مواجهات عسكرية مباشرة حصلت بين الروس والأمريكيين أو أي قوات أخرى تابعة لحلف «الناتو».
فمصير الحرب في أوكرانيا يخضع الآن لاحتمالات عدة، بينها: استمرارية الحرب لمدة زمنية طويلة، بحيث تكون حرب استنزاف عسكرية واقتصادية لروسيا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بشكل شبيه لما حدث مع روسيا الشيوعية في أفغانستان خلال القرن الماضي، لكن هذا الاحتمال ليس من السهل حدوثه؛ بسبب الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تعاني منها أوروبا الآن، وكذلك دول أخرى عدة في العالم، نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانية.
الاحتمال الثاني، هو أن يعلن أحد الطرفين المتحاربين قبوله بالهزيمة العسكرية، وهو أمر غير وارد إطلاقاً لدى القيادة الروسية، ولا طبعاً لدى الولايات المتحدة ودول «الناتو»، التي تدعم عسكرياً، وأمنياً، ومالياً، الحكومة الأوكرانية، كما لم تفعل مع أي دولة أخرى في الماضي أو الحاضر، وبالتالي، لن تسمح واشنطن بهزيمة كييف أو بتغيير سياسي فيها لغير صالحها.
أما الاحتمال الثالث، فهو استخدام السلاح النووي لحسم الحرب، وهو احتمال يحول الحرب الأوكرانية إلى حرب عالمية، تدمر معظم دول العالم، ولم يتم حصول ذلك طيلة نصف قرن من الزمن خلال حدة الصراع بين المعسكرين «الشرقي» و«الغربي»، فيما اصطلح على تسميته بـ«الحرب الباردة»؛ لأنها كانت مضبوطة السقوف بين واشنطن وموسكو رغم امتلاك الدولتين الأعظم آنذاك، مختلف أنواع الأسلحة التقليدية والنووية.
إذن، ما هو الممكن حدوثه خلال الأشهر القليلة المقبلة؟ وما مصير الحرب الأوكرانية؟ أعتقد أن الخيار الوحيد المتاح الآن هو التفاوض للوصول إلى حالة تجميد للصراع المسلح في أوكرانيا دون تراجعات سياسية مهمة من أي طرف، بحيث تكون فترة هذا «التجميد» مفتوحة زمنياً كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا والصراع الروسي - الأمريكي حول مصيرها، فجرى تقسيم ألمانيا إلى «شرقية» مع الروس، و«غربية» مع الأمريكيين، دون حسم عسكري بين الطرفين المتنازعين. وواقع الحال الآن في أوكرانيا يسمح بتنفيذ هذا الخيار الذي يحفظ «مياه وجه» الأطراف المتصارعة، ويحقق لكل منها الكثير من المصالح.
أوكرانيا الشرقية هي الآن تحت السيطرة الروسية، وغرب أوكرانيا بأكمله تحت الإشراف الأمريكي، أمنياً، وسياسياً، ولن تكون هناك مشكلة في ضم «أوكرانيا الغربية» إلى حلف «الناتو» بعد وقف الأعمال العسكرية على أراضيها، وهو الشرط الذي جرى الإشارة إليه أخيراً خلال قمة «الناتو» في ليتوانيا. وسوف يعني أيضاً ضرورة احترام موسكو لهذا الأمر وعدم قيامها بأي أعمال عسكرية في «أوكرانيا الغربية»، كما يحدث الآن مع كل دول «الناتو» المجاورة لروسيا.
وسوف تتعامل أوروبا مع هذا الخيار بشكل إيجابي؛ لأنه يضع حداً لما تدفعه الآن من ثمن باهظ كتداعيات للحرب الساخنة في بلد أوروبي، ما يهدد الأمن الأوروبي بأسره على مختلف الصعد.
لكن قبل الوصول إلى هذا الخيار، يسعى كل طرف من الطرفين «الروسي» و«الغربي» المتصارعين الآن، إلى تحقيق إنجاز عسكري يبرر لاحقاً الوصول إلى وقف لإطلاق النار على أساس تسوية مؤقتة، لا على أساس حل جذري للأزمة الأوكرانية التي تصاعدت عسكرياً منذ فبراير من العام الماضي، لكنها استمرار لأزمة تفاعلت بأشكال مختلفة لأكثر من عقد من الزمن. لذلك، فإن الأشهر القليلة المقبلة سوف تزداد فيها حدة المعارك العسكرية بين القوات الروسية والأوكرانية المدعومة من «الناتو» على أمل فتح الباب في موسم الخريف للوساطات والمبادرات الدولية، في مقدمتها المبادرة الصينية، حتى لا تعيش أوروبا لعام آخر موسماً صعباً من الشتاء والحاجة القصوى فيه للغاز والنفط.
وما يرجح هذا الخيار ما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤول أمريكي، إن المسؤولين الأوكرانيين كشفوا لوليام بيرنز، مدير «سي.آي.إيه» خلال زيارة سرية قام بها أخيراً للعاصمة الأوكرانية، عن استراتيجية لاستعادة أراض سيطرت عليها روسيا، وبدء مفاوضات وقف إطلاق النار مع موسكو قبل نهاية العام الجاري.
أيضاً، فإن إدارة بايدن تحتاج لإنجاز سياسي ما في أوكرانيا قبل انشغال الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، وربما يتم التمهيد لذلك من خلال المسارين، العسكري الجاري على الأرض، والدبلوماسي عبر تشجيع مبادرات دولية تتحرك الآن، كان منها ما كشفته قناة (ARD) الألمانية عن «اجتماع دولي» لتسوية النزاع في أوكرانيا قد جرى في يونيو الماضي بالعاصمة الدنماركية كوبنهاغن، شارك فيه دبلوماسيون من بريطانيا، وفرنسا، وكندا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا، إضافة إلى ممثلين عن الصين، وجنوب أفريقيا، والهند، والبرازيل، وتركيا، والسعودية.
أوكرانيا سوف تشهد صيفاً عسكرياً ساخناً لكن خريفها قد يحمل تباشير تسوية سياسية تحتاجها الأطراف المتصارعة كلها الآن.